طلال سلمان

على الطريق بيروت القضية والتحدي

مرة أخرى تفرض بيروت نفسها كقضية تتصل بصميم الأزمة التي عانى منها العمل الوطني في لبنان والعمل القومي عموماً.
فمنذ عهد بعيد تجاوزت بيروت ذاتها وطبيعتها كمدينة لتغدو مركز العمل القومي ومجمع الام العمل الوطني و”الساحة” التي فرض عليها أن تشهد وأن تتحمل مجمل التشوهات التي أصابت الأمة والشعب.
وحين حاصر العدو الإسرائيلي بيروت ودمرها تدميراً وفرض على من فيها الجوع والعطش والعتمة والخوف المقيم من شبح الموت الآتي من البحر والأرض والسماء.
ثم حين أذلها عسكره بدخولها لتجريدها من السلاح وتحطيم ما تبقى من معنويات الصامدين الصابرين فيها.
وأخيراً حين أعمل في أهلها والمقيمين فيها يده وأدواته ذبحاً وتقتيلاً وتفظيعاً.
إنما كان بكل ذلك يؤدب بيروت كل العرب، عاصمتهم وترسهم وحصنهم القومي، مطبعتهم ودار نشرهم وصحيفة الصباح، شاعرهم ومغنيهم ورسامهم وفوق ذلك كله حاضنة ما تبقى من إرادة التغيير ومن شعارات الثورة والمعارضة والاعتراض على قهر الأمر الواقع ورفض التسليم للأجنبي غاصباً ودخيلاً.
وبالقطع فقد استفاد العدو من الأخطاء والتجاوزات والارتكابات ومن قصور المتصدين لحمل الراية وانحراف القيادات المعزز والمؤكد بإفسادها للقواعد، لكن ذلك كله لم يكن ليعنيه إلا كعنصر يسهل له دخوله بأقل كلفة ممكنة.
فما كان يعني العدو بداية وانتهاء هو ضرب بيروت الأصلية، بيروت القضية والحاضنة والرافضة، بيروت التي صمدت في وجه الخطأ فلم تتبدل “نكاية” بالمخطئ، وظلت على إيمانها “بقرب عمر” وإنما إنما تقاتل من أجله، وإن كان يحزنها أن يغلط “عمر” أو تتوه به الدروب أو بزوغ بصره عن هدف نضاله ومبتغاه.
ولقد دخل الإسرائيلي بيروت ليذل بها كل أهلها، كل العرب بلا استثناء، ليطفئ وهجها طالما هي نوارتهم وليخرسها طالما هي لسانهم والمنبر الأول للحركة الفكرية في ديارهم وليدمر فيها رمز تقدمهم واتصالهم الوثيق بالحضارة وانتمائهم إلى العصر وجدارتهم في المساهمة برسم ملامح غدهم الأفضل.
لم يدخل العدو الإسرائيلي بيروت الطوائف والمذاهب والفرق والأحزاب بل دخل بيروت الأكبر من هؤلاء جميعاً والأبقى من هؤلاء جميعاً والتي يشكل وجود هؤلاء جميعاً فيها سمة من سمات كبرها وعظمة دورها القومي وتوكيد صفتها الباقية: عاصمة كل العرب وبوصلتهم، إلى طريق الغد ووردتهم المطلقة شذاها بامتداد دنياهم الفسيحة.
وللمناسبة فإن مما يؤكد صلابة بيروت وصمودها وتعاليها على كل ما يفرق ويقسم هو ما وقع حين هيمنت فئة على بعض بيروت وسلختها عن طبيعتها وأخرجتها من جلدها.
لقد استطاعت تلك الفئة أن تنتزع بعض بيروت كجغرافيا، لكن “بيروت” ظلت خارج نطاق الأسر والتصنيف، لا هي دخلت ما أسمي “الغيتو” في شرقها، ولا هي ارتضت أن تصير “غيتو” آخر في غربها..
لم تصبح بيروت “غيتوين” واحداً لكل طائفة، أو لكل دين، أو لكل حزب، بل بقيت بيروت العاصمة ومركز الدولة وقلب الوطن وملخص القضية القومية حيث منعت طبيعتها وخصائصها وثوابت تراثها النضالي قيام “الغيتو” المضاد.
ظلت بيروت الحرية، والمواطنة، والوحدة هي هي، وهذا ما أبقى فيها كل ذلك الحشد اللجب من اللبنانيين وسائر العرب المتنوعة انتماءاتهم الدينية والطائفية والمذهبية والفكرية والسياسية والثقافية تنوع أي شعب واحد موحد في الدنيا.
وهكذا انتصرت بيروت بذاتها مرتين: مرة على العدو الإسرائيلي فلم تركع، ومرة على التيار التقسيمي الداخلي، وهي هي التي حمت شعار الوحدة وإيمان المؤمنين به.
لقد استطاع جيش الاحتلال ، ومن تواطأ أو تعاون معه، أن يجردها من السلاح، وأن يفرض عليها صنوف الاذلال، لكنها لم تسقط ولم تمت، ومع أول نسمة هواء نقي وصلتها تحركت، ببطء في أول الأمر، ثم بحيوية، حتى جاءت لحظة الانتفاضة الجليلة في أعقاب شهور من المعاناة والعذاب والعض على الجراح والتعالي على الألم وعلى المتسبب فيه حتى لا تقع في المستنقع الطائفي القاتل.
لقد رفضت بيروت أن تصبح واحدة من الطوائف، أو لواحدة.
وانتفضت على الدولة حين اقتضت الضرورة أن يصحح النهج بالاعتراض المسلح، ولكن من أجل أن تكون الدولة دولة لا مزرعة لمتحكم ولا تكية لمهيمن.
وإذا كانت بيروت قد صمدت في وجه المحتل باسم الأمة، فقد جابهت الطائفيين باسم الوطن، ولطمت المهيمن باسم الشعب كله.
ومشكلة بيروت اليوم هي مجسم لأزمة الأمة.
إن بيروت لا تجد نفسها إلا في إطار عمل وطني تتسامى راياته، فوق الطوائف والأحزاب لتحمل الناس إلى مهجع الأحلام والتطلعات المشروعة، إلى وطن لكل أبنائه حقوقهم المتساوية فيه وله عليهم الواجبات المقدسة ذاتها.
وبيروت لا تجد نفسها ولا تسلم قيادتها إلا لحركة قومية تكبر بها وتكبرها وتقتحم بها دنيا الغد العربي الأفضل، غد الحرية والخبز والكرامة والوحدة.
فمن يطلب قيادة بيروت عليه أن يرتقي من عصبية الطائفة أو العشيرة إلى الوطنية، ولن يتم له ذلك إلا إذا دمر المؤسسة المعادية للوطن، أي تلك العصبية الجاهلية.
ومن يطلب قيادة بيروت عليه أن يحطم قوقعة الإقليمية والكيانية وأن يدمر ليل التخلف وترسبات عصور القهر الاستعماري والذل الإسرائيلي مستشرفاً آفاق أمته المترامية أطرافها بين المحيط والخليج، مقموعة مغلولة الفكر واليد تنتظر “المخلص” العظيم الهاتف بها: أماه ها أنذا!! لقد جئتك بفجر اليوم الموعود.
فليست بيروت مشكلة أمنية، وليست حلها بتقاسم أحيائها بين الميليشيات والقوى النظامية الخارجة على إرادة النهج المغلوط للجالس في قمة السلطة.
بيروت هي التحدي الأعظم لكل من يدعي الانتساب إلى المستقبل.
وأبسط الشروط لتوكيد جدارة أي كان بقيادة بيروت هو استعداده لأن يمكنها من بناء جبهة وطنية حقيقية تستقطب وتستوعب أماني أهلها (أصليين ومقيمين) ودورها كعاصمة لكل العرب، أعطوها الكثير وأعطتهم أكثر وما زالوا ينتظرونها وينتظرون منها المزيد لصياغة غدهم الأفضل واكتشاف طريقه المرصود!
بيروت هي كلنا.
وبيروت تفرد صدرها للراية الجامعة وللقيادة القادرة على أن تحملها إلى المحيط والخليج، حيث يتلهف على وصولها كل الذين ساعدتهم على أن يستعيدوا اعتبارهم لأنفسهم بفضل صمودها العظيم وتضحياتها الجليلة.
فليتقدم القادرون على حمل الراية.
أما الطائفيون والكيانيون والانفصاليون والسارقون وفارضو الخوات والمسيئون إلى شرف مدينتنا وعاصمتنا ونوارتنا، فليسوا أكثر من زبد يذهب جفاء متى خفقت تلك الرايات المجيدة وانتظمت صفوف أهل الوطن لإكمال المشوار الطويل والشاق والذي لا يقدر عليه إلا الرجال الرجال.
وفي بيروت امتحان الرجال والأحزاب والطامحين إلى القيادة، فقيادة بيروت طريق إلى قيادة الوطن والأمة وليس إلى الهرب منهما، وهي، مؤهلة لأن تكبر مع من يأتيها ليخطو بها نحو الغد الأفضل، نحن الوطن والأمة، وليست مؤهلة ولا قابلة لأن تصغر فتنحشر في طائفة أو مذهب فكيف بالعشائر المسلحة؟!!
تعالوا فاكبروا ببيروت.
تعالوا إلى الوطن. تعالوا إلى القضية. تعالوا إلى حيث يصنع النصر والفجر البهي، وبالناس جميعاً.. فالناس هم الأصل، والناس هم أصحاب القرار في القيادات والقادة، وهم أصحاب القرار في الأسلوب والأداة وموعد القتال ومكانه والسلاح الأفعل.

Exit mobile version