طلال سلمان

على الطريق بشير الجميل في لوزان!

… وتبقى الملاحظة أخيرة لا بد منها قبل أن ننهي الحديث عن دور الانعقاد الثاني لمؤتمر الحوار الوطني في لوزان، وهي ملاحظة تتصل بظل واحد من الرجال كان مؤكد الحضور على رغم غيابه الأبدي هو بشير الجميل.
كان بشير الجميل هناك، في الفندق الفخم عينه، وفي أكثر من طابق، ولاسيما في تلك المسافة الفاصلة بين الطابق الثاني المخصص لكميل شمعون وبيار الجميل ومن معهما من المنتظمين في ذلك الإطار الفضفاض المسمى “الجبهة اللبنانية”، وبين الطابق الثالث المخصص لتحالف الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط وحركة “أمل” بقيادة نبيه بري، ومن والاهما.
كذلك كان شبح بشير الجميل لا يكاد يغادر القاعة، فإذا نسيه فريق تذكره الفريق الآخر فاستحضره. وكان بعض الحوار “معه” ، وبعض الحوار “عنه” وإن اتخذ شكل الرد على منطقه وتسفيه ومنطلقاته وشعاراته، مع التبني الكامل لاكتشافه التاريخي المذهل في أن مساحة لبنان هي بالتمام والكمال 10452 كلم مربعاً لا تنقص ذرة ولا تزيد ذرة!
وطبيعي أن يكون بشير الجميل ماثلاً في أبيه، فطالما رأى فيه الشيخ بيار نفسه، بحاضره وشبابه وما قصر عن أن يكونه، وكذلك في المختفي دائماً خلف أبيه، فكراص ولساناً، الزميل جوزيف أبو خليل ، رئيس تحرير جريدة “العمل”.
وطبيعي أن يكون متداخلاً مع آخرين في قلب ميشال سماحة، وفي عقل جوني عبدو التآمري بحكم المهنة.
أما في قلوب الآخرين وعقولهم فهو إن وجد ففي موقع الخصم، لكن الخصومة حضور لا غياب، خصوصاً متى كان الخصم قوياً وشديد التأثير، فكيف إذا كان أقوى من المخاصم أو موازياً أو مكملاً له ولو من باب التناقض المطلق؟!
لقد قال المؤتمرون أو سمعوا بعض تعابير بشير، وبلهجات المناطق اللبنانية المختلفة، وهذا منطقي طالما إن الحديث عن الطوائف والحقوق الطائفية والضمانات التي من شأنها أن تستبقي “الشعب المسيحي” فوق هذه الأرض.
وإذا كان بعض خصوم وليد جنبلاط قد تهامسوا، غير مرة، في حضوره، وتناقشوا في غيابه عن وجوه الشبه بينه وبين قائد “القوات اللبنانية” السابق ، فإن بعض المعترضين على أسلوب نبيه بري قالوا في معرض مؤاخذته: إنه يتحدث مثل بشير، فهو يقول للمسيحيين مطمئناً إنه ضمانتهم، تماماً كما كان بشير يخاطب المسلمين بلغة “الضامن” ويقطع لهم العهد بهذه الصفة.
ولأن بشير الجميل هو رمز تجديد المؤسسة الطائفية من دون أي تغيير في جوهرها، فقد كان طبيعياص أن يتلاقى مع منطقه أولئك الذين جددوا في بيئتهم المؤسسة ذاتها مع تبديل في التمثيل.
لقد ألغى بشير الجميل حزب الكتائب وتجاوزه مقدماً نفسه كممثل جديد ووحيد للتيار التجديدي الذي هو بالضرورة شيء آخر غير كتائب الثلاثينات والأربعينات والخمسينات والستينات والسبعينات والحرب الأهلية المفتوحة حتى تاريخه.
ولكنه ألغاه من موقع حصر التمثيل بشخصه وبمؤسسته البديلة “القوات اللبنانية” التي تشكل نسخة الثمانينات من المارونية السياسية.
وبهذا المعنى، ومع الأخذ بالاعتبار الفوارق الموضوعية، فإن حزب وليد جنبلاط الآن هو نسخة الثمانينات عن الدرزية السياسية، في حين إن “أمل” نبيه بري ما تزال تكافح لتكون هي الممثل الشرعي الوحيد للشيعية السياسية في الثمانينات.
وحده الإسلام السني السياسي لم يجدد نفسه بما يكفي عبر تقديم رموز شابة لها في أن “المشروعية” الموروثة وحق القيادة المكتسب في الشارع وبه.
وبعيداً عن مناقشة الاسباب التي حدت من إمكان تحول الرموز الشابة التي أنبتتها الحرب الأهلية إلى قيادات راسخة وغير مطعون بقوتها وحقها في تمثيل جمهورها، فإن هذا الخلل في الركن الثاني للنظام السياسي الراهن يعقد عملية تجديد التوازن وإعادة توزيع الحصص بين أطراف اللعبة من بناة الكيان وحماته والعاملين لإدامته.
ولعله سيكون على الأطراف المتبقية أن تنتظر بعض الوقت حتى يبرز من يقول: أنا نظيركم بين السنة فتعالوا إلى “قسمة” سواء… هذا إلا إذا استطاعت القيادات “التاريخية” الحالية أن تقول: أنا هو النظير والمبارز والمحاور والشريك ولن تستطيعوا استيلاد قيادة بديلة بعملية قيصرية متسرعة ومغلوطة ومضمونة الفشل.
بهذا المعنى قد تتجاوز هذه القيادة التاريخية دور الشريك لتشكل بذاتها أرض الحوار العتيد بين “المجددين” في البيئات الثلاث… ولعل بعضاً من هذا الدور يتضح جلياً بالعودة إلى محاضر جلسات المؤتمر الثاني للحوار الوطني، فهذه القيادة تحديداً كانت في موقع المحاور بالنسبة للجميع، ولعلها – بمن وما تمثل – ستكون المستفيدة الأولى من عملية تجديد القديم الباقي.
وسبحان الحي الباقي الذي لا يموت!

Exit mobile version