طلال سلمان

على الطريق باسم الشعب المعارض يحكمون

كل مواطن عربي معارض حتى اليأس… أو الحكم، وهو إحدى الراحتين!
من حياته الشخصية وحتى المصير الوطني، لا يجد المواطن العربي –عموماً – في حاكمه ما يطمئنه على يومه أو على غده، على وجه الخصوص.
لا خبزه متيسر ولا أمنه الشخصي مضمون، ولا حقوقه مصانة، ولانظام الحكم القائم قابل للحياة، فكيف بالتطور… أما إذا استذكر العدو – والعدو القومي تحديداً – فسيتملكه شعور بالذل والمهانة ومرارة العجز السحيق.
لكن عشرات ملايين المواطنين العرب المعارضين – ضمناً! – لا يشكلون حركة معارضة واحدة، وهكذا يتحولون – بصمتهم أو بضياعهم أو بافتقادهم للناظم العقائدي أو السياسي – إلى “موافقين” أو مغيبين” أو “بدون”، على الطريقة الكويتية، أي من دون رأي وموقف وقدرة على التأثير.
ومع الأخذ بالاعتبار أن الأنظمة القائمة قد طاردت المعارضين الجديين والواعدين حتى الإبادة (بالشراء أو بالسجن أو بالقتل)، وإنها – بمر الزمن – استطاعت تدجين العديد من الأحزاب والقوى السياسية المطلة على الغد والمؤهلة – من حيث المبدأ – لأن تقدم بديلاً أرقى، فلا بد من الاعتراف ايضاً بأن بعض نماذج المعارضة لم تفعل إلا تزكية تلك الأنظمة (الدكتاتورية) وإثبات أهليتها وعصريتها لشدة ما كان المعارضون متخلفين ومغلقين ومن بقايا الماضي.
ولعل الحدث الجزائري يقدم، في بعض جوانبه، بعض تجليات المحنة التي تعيشها المعارضة في الوطن العربي…
إن الوقائع تثبت – بالدليل القاطع – إن الأكثرية الساحقة من الجزائريين إنما تعارض الحكم (سواء الذي كان قائماً حتى “خلع” الشاذلي بن جديد، أو الذي أقامه “انقلاب” 11 كانون الثاني الجاري على انقاضه)…
ومؤكد أن عدد المعارضين قد تضاعف بعد الانقلاب عما كان عليه قبله، ثم إن تيارهم العريض بات يضم الآن – تقريباً – شعب الجزائر كله، بعربه وبربره، بإسلامييه ومسلميه، بالطليعيين من نخبه والسلفيين.
حتى الحزب الذي كان “حاكماً” حتى الأمس القريب، (جبهة التحرير الوطني) والذي يتحدر من صلبه رموز “الانقلاب”، انتهى في صفوف المعارضة، وارتضى بأن يسلم القيادة للتيار الأعظم شعبية في الشارع، كما قبل مبدأ التحالف مع “المنشقين” عنه بذرائع عنصرية مع حسين آية أحمد،
لكن محنة هذا الشعب المعارض إنه جمهور عريض جداً وهائل الحشد ولكنه بلا رأس، وبلا عمود فقري، وبلا برنامج محدد يلبي الاحتياجات والمهمات المطروحة على الحكم المرتجى في الجزائر لإقالتها من عثرتها وابتداع حلول جدية وجذرية لأزماتها الكثيرة والمزمنة والمعقدة والمكلفة.
إنه تيار مسكون بروح الانتقام والثأر من الحاضر، باسم الماضي ولحسابه، أكثر مما ينتسب إلى المستقبل.
ولقد تتمكن الغرائز من اغتيال بعض الأحلام، لكنها لا تستطيع أن تعوضها ولا هي بقادرة على أن توفر للناس الخبز والكرامة وسائر مستلزمات الغد الأفضل.
والمفارقة في الجزائر، كما في أقطار عربية عديدة، موجعة: فالحكم “الأقلوي” المستند إلى “تنظيم” متماسك (كالجيش)، أقوى بما لا يقاس من شعب غاضب تنقصه القيادة المؤهلة والتنظيم المعافى والبرنامج القادر على تحويل الأحلام إلى رؤيا فإرادة فقرار يعيد صنع الحياة.
والقوة العسكرية لا تستطيع أن تحسم، في أي مكان، فتلغي إرادة شعبية، ولكنها تستطيع فرض نظام ضعيف حيثما تكون المعارضة (على الأعداد الغفيرة لجماهيرها) أضعف منه في قيادتها وبرنامجها وحالتها التنظيمية.
و”الجيش”، في العالم الثالث عموماً وفي العديد من الأقطار العربية، لم يكتسب مكانته المميزة في المجتمع بوصفه أداة قمع، أو باعتباره رمزاً مجرداً للعزة الوطنية، بل لأنه قدم في حالات عديدة نموذجاً للحكم أقل تخلفاً من ذلك الذي خلعه،
وفي الجزائر بالذات يصل الالتباس إلى ذروته: فالجيش متحدر صلب من مجاهدي جبهة التحرير الوطني، ثم إنه كان العمود الفقري للحكم الوطني على امتداد الثلاثين سنة الماضية، وكان له دوره في النجاحات كما في الإخفاقات التي منيت بها سياسة “الأنظمة” التي حكمت بالاستناد إليه.
وليس الصدام بالجيش مطلباً جماهيرياً، في أي مكان، ولاسيما في الجزائر، كما أن التعايش معه في السلطة مستحيل… فلقد استخدم هذا الجيش، خلال ثلاثين سنة فقط، لخلع رئيسين من أصل ثلاثة، وها هو الآن “متراس” يتلطى وراءه الذين لا يريدون للمعارضات الجزائرية – أي للشعب – أن يجرب حظه مع الديموقراطية.
والمأساوي في الأمر أن المعارضات تجد نفسها محكومة بأن تعبر مطهر الدم عبر الصدام مع الجيش لكي تستحق نعمة الوصول إلى السلطة باسم أبسط أشكال الديموقراطية السياسية.
التحرير بالدم، والحكم بالدم، والمعارضة بالدم،
الخبز بالدم، والديموقراطية بالدم، والتقدم بالدم،
… أو يحكم علينا بالاختناق في مستنقع التفاهمة والتخلف والأنظمة المعاقة والتي تحاول إخفاء تشوهاتها التكوينية بإفساد شعبها، نخبه وعامته، حتى يصح القول “كما تكونون يولى عليكم”!
الطريف أن السعودية، التي طالما حاولت الإيحاء بأن لها علاقات وثيقة مع بعض قيادة جبهة الإنقاذ الإسلامي، كانت في طليعة الدول التي بادرت إلى تهنئة رئيس مجلس الدولة الجديد – الذي استعاده الجيش من حيث كان قد نفاه – محمد بوضياف…
والأطرف إن هذا المناضل القديم الخارج لتوه من الكهف باشر “مهامه” بإطلاق التهديدات ضد المعارضة (التي كان بهذه المناسبة أو تلك منها حتى الأمس القريب)،
على أن أطرف الطرائف إقدام “الانقلاب” على فتح معركة ضارية على جبهة وهمية هي إيران، لكي يحاول الإيحاء بأن معارضيه امتداد لجهة أجنبية وليسوا الأكثرية الساحقة من شعبه.
والمعركة خبيثة في أهدافها وهي تكشف الانقلابيين أكثر من سائر معاركهم ضد المعارضين في الداخل، لأنها تثبت أن هؤلاء الذين قفزوا إلى الحكم ليل ذلك السبت يضعون عينهم على “الخارج” ويحاولون أن يضمنوا “لعهدهم” موقعاً في النظام العالمي الجديد، ومرة أخرى باستخدام الجيش إياه الذي كانت مبررات وجوده إرادة التحرر من الهيمنة الخارجية باسم الشعب ولخير الشعب… المعارض!

Exit mobile version