طلال سلمان

على الطريق انهيار “المركز”…

الحكم عاجز وقليل الحيلة ومتواضع الإمكانات، ويفتقد حسن السلوك والسيرة،
والمعارضات، برموزها القيادية، ذات سجل حافل بالموبقات والارتكابات، والأخطر إنها ولغت من دماء اللبنانيين ودمرت من إمكاناتهم وقدراتهم ما جعلهم ينحدرون بسرعة قياسية إلى أسفل السلم، اقتصادياً واجتماعياً.
فإذا ما استثني ريمون اده، أمكن إعداد مضبطة اتهام مثقلة بالاتهامات الخطيرة ضد كل هؤلاء الذين ينادون اليوم بالديموقراطية بينما لم يحكموا (ولم يتحكموا) إلا بالحديد والنار والقمع الشامل ومصادرة إرادة اللبنانيين.
لكن حظ هذه المعارضات كونها تخاصم هذا احلكم الذي لا يتحمس الناس للدفاع عنه، ولا يعبأ أحد بأن يذود عنه فينفي ما يتهم به “رجاله” ويبرئ ذممهم المالية أو يمتدح كفاءتهم العالية وحسن تدبيرهم الانقاذي.
وبين حكم غير مؤهل وغير موثوق، ومعارضات تفتقر إلى المصداقية وتاريخها يناقض مطالبها ويكشف التزوير في شعاراتها، تتعاظم المعضلة ويدوخ الناس، وإن ظلت تشدهم أشواقهم إلى السلام والاستقرار والدولة بعيداً عن التطرف والتعصب، لاسيما وإن الجذر الكامن لطروح المعارضة هو جذر طائفي وفئوي مهما أتقن تمويهه وتغطيته بألوان الديموقراطية والحرص على الحريات العامة.
الكل صغير والأزمة خطيرة،
والانتخابات ذريعة وليست هي جوهر الخلاف… وما كان التأجيل أو حتى الإلغاء ليوحد المواقف المتباينة والحادة وهي سابقة على طرح مسألة الانتخابات وباقية بعدها، ولطالما عبرت عن نفسها علناً وبشكل فج – أحياناً – في كل محطة من محطات الإنجاز على طريق اتفاق الطائف والحكم الذي أتى باسمه ويستمر بقوة تجسيده المفترض له.
والخلاف كما تبدى عبر لقاءات بكركي وفي ظل الطروح التي تصادمت محدثة شرخاً عميقاً ، أو بالأحرى معمقة الشرخ القائم بين المجتمعين ومن وما يمثلون، هو – في بعض جوانبه – استمرار بشعارات جديدة للخلاف القديم المسيحي – المسيحي الذي كلف لبنان الكثير من سمعته ورصيده ودوره وكلف اللبنانيين (والمسيحيين بصفة خاصة) الغالي من دمائهم وأرزاقهم ومكانتهم القيادية.
وقد لا يكون بعيداً عن الصحة القول إنه خلاف بين المركز والأطراف.
فليست مصادفة أن الغالبية الساحقة من المعارضين هم من أهل “المركز” بالمعنى اللبناني العام، وبالمعنى المسيحي خصوصاً وتحديداً الماروني.
لقد احتشد موارنة الأطراف، ومعهم الغالبية الساحقة من سائر المسيحيين، في مواجهة موارنة المركز، وهم أهل الحكم والقيادة والوجاهة السياسية والاقتصادية، تاريخياً، أقله منذ عهد الإمارة وبعدها المتصرفية.
وكان الاحتشاد نتيجة منطقية لانهيار “المركز”.
لم يعد “جبل لبنان” هو “صاحب الفخامة” أو “صاحب الدولة” بالاطلاق.
لقد سقط في امتحان القيادة والأهلية للزعامة والرئاسة. سقط في الحرب، وها هو يكمل سقوطه في السلم.
ولم تكن مصادفة أن يعهد باتفاق الطائف وجمهوريته إلى رئيس من موارنة الأطراف، فلما اغتيل الرئيس رينيه معوض، كان لا بد من أن يكون الوريث أيضاً من موارنة الأطراف.
ولم يكن ذلك يستهدف طمأنة المسلمين فقط، بل لعله استهدف أساساً طمأنة المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً، وطمأنتهم إلى أنهم لن يؤخذوا بجريرة المخطئين والمسيئين ، بل والقتلة، من الذين توالوا على الحكم من أبناء جبل لبنان (لاسيما في الحقبة الأخيرة، من الاجتياح الإسرائيلي وحتى خلع ميشال عون).
كان ذلك تعويضاً على أهل الأطراف (مسيحييها خاصة) الذين كانوا على الدوام ضحايا الصراع على النفوذ بين “أقطاب” المركز، والقرابين التي يقدمونها للاستمرار في السلطة. (ألم يكن موارنة الأطراف هم هديد “الجيش الماروني” وكتلته المقاتلة؟!)
انهار المركز، بأيدي أبنائه أولاً، وعلى رؤوسهم ومعهم الآن مجموع اللبنانيين الذين لم يمارسوا الحكم من قبل، وكانوا يرون في ابن المركز “السيد” و”الرئيس”: رئيس الجمهورية، ورئيس الحزب، ورئيس الميليشيا، وايضاً رئيس الكنيسة، في الغالب الأعم، ورئيس الرهبنة…
ولأن أهل المركز قد فقدوا الصدارة فهم يتصرفون الآن وكأنه لم يعد لديهم ما يخسرونه، فيخوضون غمار حرب انتحارية بذرائع متهالكة، ولذلك فشلوا وسيفشلون في استقطاب سائر المسيحيين فكيف بالمسلمين.
ماذا لدى ميشال عون، بعد، مما يمكن أن يخسره (حتى لا نذكر الأمير الطريف الذي انتقل فجأة من دون جوان إلى دون كيشوت وهو يسخر ممن أسلمه القيادة وتبعه)؟!
لقد قامر بكل شيء وخسر. وصحيح إن خسارته كانت من كيس اللبنانيين لا من كيسه، ولكنه انتهى مطارداً، منفياً، مطالباً بملايين الدولارات، وقد كان ممكناً أن يكون الرئيس الشرعي لا منتحل صفته لو أنه عرف كيف يقرأ الخريطة السياسية والتحولات التي توالت على العالم كله فبدلت التوازنات والتحالفات السياسية تبديلاً يفوق أي توقع.
وماذا لدى أمين الجميل لكي يخاف من خسارته، وهو الذي لم يُبق مواطناً مسيحياً في بيته، ولم يبق دولاراً واحداً في خزينة الدولة، وتسبب في إفقار اللبنانيين كما لم تفقرهم عشر سنوات من الحرب المدمرة؟!
أما سمير جعجع، وهو من موارنة الأطراف، فقد حاول أن ينتمي إلى “المركز” سياسياً، فلما لم تنفعه “القوات اللبنانية”، التي أنشأها أهل المركز (آل الجميل) حاول مصادرة حزب الكتائب ليكون حصان طروادة في التسلل إلى سدة السلطة، فلما فشل، مرة أخرى، لم يتبق له ما يخسره فانضم إلى عدويه اللدودين مفترضاً أنه الأقوى على الأرض – بالمال والأعلام وحتى السلاح – وهو بالتالي الأقدر على قطف ثمار المحاولة الانقلابية الجديدة التي تتستر بشعار الدفاع عن الديموقراطية.
لا تستحق انتخابات لن تغير الكثير من مجلس النواب القائم مثل هذه الحرب الشرسة التي تهدد البلاد في سلامتها ووحدتها ومصير شعبها.
إنها مجرد ذريعة لا تخفي الأهداف الأصلية للمعارضات التي لم تعرف لا بديموقراطيتها في الممارسة حين حكمت أو تحكمت بالبلاد والعباد،
ولعل غموض هذه الأهداف هو ما أحرج البطريرك صفير ، فانتهى بالدعوة إلى الصلاة وتحكيم الضمير.
على أن المؤكد هو أن غموض هذه الأهداف هو الذي منع التلاقي بين المعارضين الفعليين لقانون الانتخاب الأعرج، وللكثير من إجراءاتها المتسرعة والمرتجلة والقابلة لأن تكون مادة للطعن في النتائج مستقبلاً.
وقد لا تكون فاجعة أن ينهار “المركز”، لكن المفجع إن أهل الأطراف لم ينجحوا أبداً في إثبات أهليتهم بأن يكونوا الحكام!

Exit mobile version