طلال سلمان

على الطريق انذار طائفي إلى كل العرب

كانت القليعة قرية على حدود لبنان الجنوبية، والآن يسأل الناس ويتساءلون عن “الحدود النهائية” لدولة القليعة!
وكانت القليعة نقطة لبنانية على طريق فلسطين، تصل بين القطرين الشقيقين، وهي الآن مساحة طائفية تفصل وتطمح أن تلغي وتنفي بالسلاح مشروع الوطن في كل من لبنان وفلسطين.
والضابط الحمصي يريد للقليعة حدوداً نفسية وسياسية وليس مجرد حدود جغرافية،
وهو يبحث مثل الإسرائيليين ومعهم عن “الحدود الآمنة” لهم، إذ يجد فيها – هو الآخر – “أمنه” وأمن إسرائيله الصغيرة،
ولأنه ضابط في “القوات اللبنانية”، أي في جيش الموارنة الرسمي “والشرعي” ، فهو غير ملتزم، بل غير معترف بالوطن. إن طائفته هي الوطن، والعلاقة بين الطائفة والجغرافيا هي علاقة تواجد: حيثما يكون “الماروني” فهناك وطنه، وحيث لا يكون فلا وطن، ومن هم هناك ليسوا مواطنين بل رعايا من محكوميه.
والسيادة سيادته. حيثما يكون هو “السيد” ويكون الباقون أتباعاً تكون السيادة تامة ولو في ظل جيش احتلال.
وهكذا فإن الطائفة المارونية، كما درسنا في كتب التاريخ، لم تفقد سيادتها لا في ظل الإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة، ولا في ظل الاجتياح الصليبي لبعض أجزاء الوطن العربي الكبير، ولا حتى في ظل الاستعمار العثماني وما ابتدع من كيانات (نظام القائمقاميتين ثم المتصرفية)، انتهاء بالاستعمار الفرنسي الذي كبر لبنان الصغير بأن أقطع “السادة” فيه رعايا بيروت والأقضية الأربعة.
الطائفة هي الوطن، وأمنها هو الأمن.
وأمن الطائفة لا يتحقق إلا بمجموعة من الضمانات ذات الطابع “الدولي” لامتيازاتها التي نالتها – أساساً – من الأجنبي وفرضت استمرارها كشرط لقيام الوطن وبقائه.
وهكذا فلا يهم الحمصي (أو الرائد مالك أو العقيد بركات أو الرائد نجيم، أو الملازم أول طحان الخ) أن يكون “الأمن” الذي يطلبه ويفهمه – بحكم تربيته السياسية – في ما وراء الخيانة العظمى.
فليذهب الوطن طالما بقيت الطائفة متمتعة “بحقوقها” بفضل الضمانات الدولية لهذه الحقوق، وماذا يهم أن تكون فرنسا هي الضامنة أو سوريا أو الجامعة العربية أو حتى إسرائيل؟..
الطائفة هي الأصل، والبحث عن حليف أو حلفاء ينطلق من الضمانات المطلوبة للحفاظ على الطابع العنصري للطائفة وتحصين أبنائها ضد خطر أن يصروا مواطنين.
وللطائفة حصانتها وبقوة الحصانة يمكن التجاوز عن خيانة الوطن.
وهكذا يتحول الوجود الإسرائيلي (القائم على الاغتصاب والقهر والاستعمار الاستيطاني) إلى ضمانة للمارونية السياسية.
ويصبح التعامل مع هذا العدو القومي (أي هذه الخيانة) ضمانة للوجود الطائفي المتميز والممتاز.
وهذا ما يجب أن تفهمه (أخيراً) الأنظمة العربية الملتقية اليوم في القاهرة على مستوى القمة: فدعم لبنان القديم والعمل لإبقائه هو مطلب إسرائيلي بقدر ما هو مطلب طائفي وانعزالي أي معاد للعرب لغة ووجوداً وحضارة وتاريخاً، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ومصيراً واحداً.
إن إسرائيل ليست ضمانة لليمين في وجه اليسار،
إنها ضمانة لأعداء العروبة ضد العرب جميعهم يسارهم ويمينهم.
وكذا الطائفية السياسية في لبنان، سواء أكانت طائفية المسيحيين أو طائفية المسلمين لا فرق.
إن القليعة “دولة معادية” للقاهرة كما للرياض كما للجزائر كما لدمشق كما لبغداد كما لطرابلس الغرب، وليس فقط لجديدة مرجعيون والخيام ودير ميماس.
إن القليعة تطمح لأن تكون رصاصة الرحمة الموجهة إلى اتفاق القاهرة…
وواضح أن الضمانة السورية فالعربية (عبر لقاء الرياض) لن تنقذ هذا الاتفاق ولن تحصنه، حتى لو دعمت “القمة الموسعة” تلك الضمانات بتواقيع الملوك والرؤساء العرب جميعاً.
فالاتفاق يبقى ويستمد قدرة على الحياة من إرادة الصمود في وجه العدو الإسرائيلي ومن الاستعداد للتصدي وللمواجهة.
إنه اتفاق تعاقدي على خوض المعركة معاً ضد العدو القومي للبنان ولفلسطين معاً،
وبهذا المعنى فإن اتفاق القاهرة ليس منة لبنانية على الفلسطنيين. إنه “بدل عن الهرب من الميدان”، أو هو “بدل عن مقاتل ضائع”.
لو قاتل لبنان لما طلب منه الفلسطينيون مثل هذا الحق الاستثنائي. ولو قاتل لحمى “سيادته” و”كرامته الوطنية”.
وخطورة القليعة إنها تعكس تحولاً مفزعاً في الموقف اللبناني.
قبل القليعة كان لبنان الرسمي يقول للفلسطينيين وللعرب: اذهبوا أنتم فقاتلوا ودعوني متسلحاً بضعفي… وإذا شئتم بعض أرضي فخذوها وقاتلوا منها، أما أنا فلن أقاتل.
اما من القليعة (وعبرها) فإن لبنان القديم، لبنان الطائفي، لبنان العنصري والصهيوني بمعنى من المعاني، لا يرفض فقط أن يقاتل، بل هو يرفض أن يدع الآخرين يقاتلون!
بل إنه الآن يقاتل من يريد أن يقاتل إسرائيل!
لقد أباد هذا اللبنان عشرات الآلاف من الفلسطينيين (والوطنيين اللبنانيين المتعاطفين معهم) بحجة إنهم تخلوا عن واجبهم في مقاتلة إسرائيلي وإنهم أخلوا باتفاق القاهرة.
وها هو الآن لبنان الطائفي العنصري يقاتل لإبادة من تبقى من الفلسطينيين (والوطنيين اللبنانيين المتعاطفين معهم) بينما هم يتوجهون إلى حيث يفرض أن يكونوا بموجب اتفاق القاهرة، من أجل أن يقاتلوا إسرائيل.
والخيار المفروض واضح: تقتلون إن أنتم قاتلتم إسرائيل وتقتلون إن أنتم تخليتم عن قتالها! ولكم أن تختاروا بين أن تموتوا في بيروت (أو في الجبل) أو على حدود فلسطين.
والكلام، بل الإنذار، موجه لكل العرب من القليعة،
والقليعة ليست قرية إسرائيلية. إنها إسرائيل جديدة.

Exit mobile version