طلال سلمان

على الطريق انتخابات “النخبتين”!

باتت نعمة الانتخابات امتيازاً إضافياً “للنخبة” من أهل اليسر والوجهاهة الموروثة أو المكتسبة أو رموز التمثيل الطائفي المباشر والصريح.
فانتخابات غرفة التجارة والصناعة، بكل الحشد من رجال المال والأعمال فيها، ممكنة ومطلوبة وتدخل “الدولة” طرفاً من أجل تسهيل “الائتلاف” بين المتنافسين على موقع الصدارة،
وانتخابات الرئاسة في حزب الكتائب، بكل إرث الحرب الأهلية المختزن فيه وفيها، تستقطب اهتمام احلكم والحكومة والسفارات العربية والأجنبية ومنسق أنشطة الاحتلال الإسرائيلي، فينزل الجيش لضمان أمن “الناخب” وسلامة المحروم من هذا الحق وتنشب معارك تلفزيونية شرسة بين وزير الدفاع وقائد “القوات اللبنانية” حول الحياء والتدخل والنزاهة الخ تكاد تنسي الناس هموم الخبز والدولار لطرفاتها وفرادتها.
أما الانتخابات النيابية فتكاد تكون محرمة على الدهماء وعامة اللبنانيين ممن لم يجرب من بلغ الأربعين سنة من عمره “متعة” ترشيح الذات أو انتخاب الغير لتمثيله والتعبير عن رأيه ولو في نقابة أو رابطة مدرسية.
ولعل أبطال المعركتين الانتخابيتين اللتين تابع ويتابع اللبنانيون وقائعهما بشيء من الشغف والفضول والدهشة ولذة الاكتشافن بين الأعتى رفضاً للانتخابات النيابية سواء بالإعلان المدوي أم بالهمس المسموم!
ما علينا، لنحاول “القراءة” في معنى هاتين المعركتين اللتين جمعت المصادفات القدرية بينهما ولو في التوقيت،
فأما حزب الكتائب فعنوان بارز، وبالنيون، لبيت مهجور، والصراع هو على اللافتة التي كانت ذات يوم تختزل “الطائفة الحاكمة” في لبنانز
إنه اسم للتصدير، أكثر مما هو للاستخدام المحلي. اسم يستدر الصدى، عربياً وإقليمياً، أكثر مما يعبر عن قوة شعبية، كما كان عشية انفجار الحرب الأهلية وحتى بلوغها إحدى ذراها المأساوية عبر الاجتياح الإسرائيلي الذي نستعيد وقائعه المرة هذه الأيام ولمناسبة الذكرى العاشرة لوقوعه.
فعلى امتداد الستينات والسبعينات تصرف حزب الكتائب وقدم نفسه أو قدمه “الغير” – بما في ذلك الحكم – إلى العرب والعالم على أنه “حزب الطائفة”،
ولأن الحكم للموارنة، فقد افترضت الكتائب إنها “حزب الحاكم”، ثم سرعان ما رأت نفسها جديرة بأن تكون “الحزب الحاكم” طالما الحدود بين الحزب والجيش، بين الطائفة والحكم متماهية ومتداخلة إلى هذا الحد.
أما اليوم فالكتائب هي، بالكاد، أحد أحزاب “الطائفة” التي فرض عليها أن تقيم حدوداً بينها وبين “الدولة”، كما فرضت الظروف على رئيس الدولة أن يقبل بترك السلطة التنفيذية لمجلس الوزراء، أي لاتحاد الطوائف اللبنانية، مكتفياً – حتى إشعار آخر – بموقع رئيس الشرف أو “الرمز” أو “الحكم”، وعلى مضض في جميع الأحوال.
ولقد أصاب الكتائب ما أصاب غيرها من الأحزاب عبر الحرب الأهلية: كبرت معها وكبرت بها وتورمت وانتفخت حتى تفجرت من داخلها وطارت شظاياها مع الرياح الأربع.
وليست مصادفة أن يكون في الحكومة الحالية أربعة كتائبيين يمثلون أربعة تيارات متعارضة وقد بلغ تعارضها ذات يوم حد الاقتتال: فحتى العام 1984 كان جورج سعادة وإيلي حبيقة وسمير جعجع وميشال سماحة، قياديين في الحزب أو في مؤسسته العسكرية “القوات اللبنانية”، يواجهون من خلف آل الجميل، أو يواجه بهم آل الجميل القوى السياسية (والعسكرية) الأخرى متباهين: هؤلاء أبنائي فجئني بمثلهم!
لم تعد الكتائب حزب الطائفة. ولم تعد الطائفة، مثلها مثل الطوائف الأخرى، محبوسة في قماقم الأحزاب التي أقامتها كواجهات سياسية وكمعابر للسيطرة على السلطة.
بل إن الطائفة المارونية بالذات قد تجاوزت أحزابها بسرعة قياسية، ومباشرة بعد وصول أول “حزبي” إلى قمة السلطة على مدافع الاحتلال الإسرائيلي قبل عشر سنوات.
ربما لهذا استطاع جنرال نصف مخبول وغير مسيس أن يستقطب نخبها وشبيبتها في آن، مجاهراً بعدائه للأحزاب والحزبيين كما للتقليد والتقليديين.
“جنرال” واحد أمضى نصف عمره تابعاً لـ “القائد” أو “الرئيس” الكتائبي، استطاع وبغير جهد أن يلغي – فجأة – الكتائب و”القوات اللبنانية”،
والبطريركية المارونية بدورها السياسي، والبرلمانيين (والبرلمان) والسياسيين (والسياسة) مقدماً “الزعيم” على أنه البديل عن الجميع: شعب وقائد، بلا وسيط، ولأن القائد يعرف ما يريده الشعب ويقرره، فليس على الشعب إلا أن يحيط به فيهتف له ويحيي عبقريته ويحميه من أعدائه، أعداء الشعب، أعداء الأمة، أعداء الإنسان!
إذن فهي معركة حامية على جسد ضخم ولكن النبض متوقف فيه من زمان، وهو بالمعنى العلمي والطبي ميت، وإن كان اسمه – كأية ماركة شهيرة – ما زال قابلاً للاستثمار.
قبل عشرين سنة أو يزيد، أجريت حواراً طويلاً مع زميلنا الكبير محمد حسنين هيكل، وكان بعد على رأس “هرمه” العظيم الذي بناه بجهده المتميز، في “الأهرلام” كبرى صحف مصر والوطن العربي.
امتد الحوار ليغطي اهتمامات فكرية تتجاوز السياسات اليومية، وفوجئت بهكيل يندفع ليتحدث عن أهمية الثورة الإعلامية التي كانت تطل بشائرها على العالم، بتاثيراتها المحتملة على السياسة وأيضاً على العقائد والأيديولوجيات.
وقال هيكل في جملة تتراوح بين الاستنتاج المنطقي وبين النكتة: – صدقني لو كان أيام لينين جهاز تلفزيون لما كان بحاجة إلى الحزب الشيوعي، بكل نضالاته العظيمة، وكل سنوات المجابهة والصدام مع السطلة والعمل السري بتبعاته الجسام!
ترى لو لم يكن سمير جعجع هو “القائد” الفعلي لمحطة تلفزيون أساسية في لبنان، هل كان له – بعد حل الميليشيات – هذا الحضور السياسي في البلد؟!
والمعركة بين سمير جعجع وجورج سعادة هي معركة بين وسيلتين إعلاميتين ناجحتين لكن إحداهما إذاعية فقط، بمعنى إنها تصل إلى إذن طالبها، بينما الثانية تقتحم غرفة النوم في كل بيت بالصوت والصورة… وبالألوان!
وأياً كانت النتائج فلسوف يذكر أن التلفزيون قد صنعها، إلى حد كبير،
ولاسيما إذا خسر جعجع، خصوصاً وإنه عمل في الأيام القليلة الماضية كأنشط المذيعين ومقدمي البرامج، ونافس أبطال “أنت أو لا أحد”،
ولعل أنطوان الشويري قج أخر خاتمة هذا المسلسل الكاسح الشعبية برغم رداءته، أو بسبب من رداءته، ليكون “الرافعة” التي تحمل “الحكيم” إلى رئاسة حزب الكتائب، منتصراً “لبلدياته” على ابن شبطين جورج سعادة.
في أي حال فالحزب الخارج من معركة اليوم سيكون حزباً آخر غير الكتائب، بل هو لن يكون حزباً واحداً ولا جبهة، بل شظايا حزب عريق ولد في جبل لبنان وانتهى في الشمال، على عكس المارونية التي من الشمال جاءت إلى الجبل ثم هبطت إلى بيروت حيث “الدول” والمال والحكم وكل مباهج الحياة الدنيا.
رحم الله بيروت.
للمناسبة، لا بد من كلمة عن الانتخابات الأخرى… غرفة التجارة والصناعة!
فمن تابع الحملة الإعلانية يخرج بانطباع مفاده أن لبنان في أقصى درجات ازدهاره، وإن الوجه الآخر للخواء السياسي هو قدر هائل من الحيوية في مختلف مجالات التجارة والصناعة والأعمال.
وبغض النظر عن الملاحظات حول شرعية أو لا شرعية هذه الأعمال المدرة للكثير من المال، فمن الأمانة أن تعترف لأهل التجارة والصناعة والنشاطات الاقتصادية عموماً بالبراعة والكفاءة والشطارة والليونة والقدرة المذهلة على التكيف مع مختلف الظروف “القاهرة” ومختلف أصناف القوى الحاكمة والمتحكمة!
عبر الحرب، وأحياناً بسببها وربما بفضلها، زاد عدد التجار والصناعيين والمصرفيين ورجال الأعمال بدل أن ينقصوا،
وخارج الدولة، وليس بالضرورة على حسابها دائماً، استمرت قطاعات الإنتاج تعطي، ولو قليلاً، وتحقق أرباحاً أخطرها الاستمرارية والتوسع عربياً ودولياً.
لقد حمل التجار والصناعيون والمصرفيون ورجال الأعمال حقائبهم وذهبوا خلف الزبائن، المهاجرين والمهجرين، المواطنين والذين كانوا مجرد مقيمين… قفزوا من بيروت إلى قبرص، وربما إلى أثينا، إلى روما، إلى باريس، ثم نطوا إلى المنطقة الحرة في بورسعيد، وجربوا القاهرة وعمان ودبي وأبو ظبي وقطر،
تحولت حقائبهم إلى مكاتب نقالة، وباعوا كل ما هو قابل للبيع، بما في ذلك جراح لبنان.
كانوا في المعسكرات المقتتلة جميعاً، وخارجها جميعاً، باعوا الجميع واشتروا من الجميع. ونجحوا في أن يبقوا “فوق” الأحزاب حتى وهم يدفعون لها… سخروا الطوائف حين لزم الأمر وركبوا موجاتها، بينما لافتاتهم علمانية ومصالحهم أممية!
وها هو “القاشوش”، رمز هذه الفئة الممتلئة عافية، يقدم بشخصه البرهان على مدى الليونة والقدرة على التكيف: ففي أيام البؤس لبس الكتان، ومع انفراج الحال سام الحرير واشترى منه وباع، وظل في جميع الحالات “الرئيس” عدنان قصار، رئيس عام عموم غرف التجارة والصناعة اللبنانية – العربية – الدولية.
… لكأن لحظة العودة إلى ما هو طبيعي قد اقتربت حتى نكاد نسمع “رنينها”؟!

Exit mobile version