طلال سلمان

على الطريق الوفاق الوطني وليس التدويل نتيجة لسقوط “الأسطورة” في زحلة

التدويل هو، ببساطة، الاسم “الحركي” لمشروع صهينة لبنان.
إنه الخطوة العملية الحاسمة على طريق إقامة “إسرائيل اللبنانية”، سواء بالقصد العمد أو بتوهم إيجاد الحل، أي حل، ولو بالركض وراء سراب.
فالتدويل هو، أولاً، نزع نهائي لهوية البلد وانتمائها القومي،
إنه إعلان براءة لبنان من العروبة وغربته عن المنطقة العربية،
وهذا يضعه موضوعياً حيث تريده إسرائيل الآن: قاصراً تحت وصايتها، أو محمية تابعة لإمبراطوريتها، أو – في أحسن حالاتها – شبيهاً لها ، إن لم يكن توأمها اليوم فهو على صورتها ومثالها غداً أو بعد غد.
والتدويل هو، ثانياً، إلغاء عملي للدولة في لبنان، فلو أن في لبنان دولة قادرة على ممارسة الحكم وبالتالي على معالجة المسائل والمشاكل القائمة في البلادن لما كان ثمة حاجة لإحالة المسألة اللبنانية إلى المحافل الدولية ولما كان ثمة داع لتشكيل “لجنة دولية” لإدارة شؤون البلاد وتنظيم علاقاتها مع الآخرين من جهة، وعلاقاتها مع مواطنيها من جهة أخرى، إضافة إلى العلاقة بين مواطنيها أنفسهم.
والتدويل هو، ثالثاً، تجاوز حقائق التاريخ والثوابت والمبادئ الأساسية إلى معطيات “الأمر الواقع”… وماذا لدينا من أسباب الشكوى أكثر من معطيات “الأمر الواقع” ، سواء في “غيتو” بشير الجميل أم في “غيتو” سعد حداد، أم في ما تبقى من أنحاء لبنان مما يعتبر من نتائج الحرب الأهلية والظواهر المرضية الناجمة عنها.
أي أن التدويل مشكلة جديدة وكبرى ومتميزة نوعياً بتعقيداتها وآثارها المدمرة، تضاف إلى ركام المشاكل التي يئن تحتها لبنان اليوم، واللجوء إلى مثل هذا الحل هو تطبيق حرفي لمثل الدب مع صاحبه حين عمد – لكي يطرد عن وجهه ذبابة – إلى رميه بصخرة قضت عليه.
هكذا نفهم، ويجب أن نفهم التدويل.
ومن هنا يتوجب علينا أن نقاتله وأن نسقط الداعين إليه، كائنين من كانوا، انطلاقاً من الحرص على لبنان: على سلامته ووحدته و”كيانه” – بالنسبة لعشاق الكيان بدلاً من الوطن وللحريصين على الامتيازات الكيانية – وكذلك انطلاقاً من الحرص على سلامة الأمة العربية بأقطارها كافة.
فالعمل للتدويل ليس تآمراً على لبنان، شعباً وأرضاً ودولة، فحسب، بل هو تآمر على كل قطر عربي، بين المحيط والخليج، وهو خدمة – مجانية أو مدفوعة لا فرق – لأحلام التوسع الإسرائيلي، إضافة إلى كونه مساهمة جادة ومؤثرة في ترسيخ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، بما فيها فلسطين كلها وبعض سوريا والشريط الحدودي في جنوب لبنان.
ثم إن التدويل هو إسقاط نهائي لأهلية “الإنسان اللبناني” في أن يكون سيد نفسه، قبل أن يكون إساءة معنوية قاتلة للأمة العربية بشعبها الصابر وحكامها جميعاً الملوك والرؤساء والسلاطين والشيوخ وأشباه الرجال المستمتعين بخيراتها في غير قطر من أقطارها الهائلة الغنى.
وإذا كان بعض الحكام العرب مستعدين لبيع كرامة أمتهم في سوق النخاسة الدولي (أي الأميركي – الإسرائيلي)، تشبهاً بالسادات واقتداء بمبادرته المباركة، فلسنا نظن أن المئة وخمسين مليون عربي، موافقون على أن يتحولوا إلى عبيد وقيان، وجوار وغلمان وخدم وخصيان في قصور جبابرة هذا الزمن الرديء.
وفي أي حال، لسنا نظن أن هذا المواطن اللبناني الذي امتشق السلاح وقاتل دفاعاً عن كرامة أمته، كما عن كرامته الشخصية وعن حقها – ومن ثم حقه – في الحياة الكريمة، مستعد الآن لأن يرمي السلاح وقاتل دفاعاً عن كرامة أمته، كما عن كرامته الشخصية وعن حقها – ومن ثم حقه – في الحياة الكريمة، مستعد الآن لأن يرمي السلاح والانبطاح على أقدام المارينز القادمين من ضباب… الاحتلال الإسرائيلي.
لم يقاتل هذا المواطن بشير الجميل وميليشياته ليسلم رقبته، بعد ذلكن إلى انكشارية الأميركان والفرنسيين أو الإسرائيليين القادمين إليه بثياب فرنسية وأسلحة أميركية.
نقطة ثانية جديرة بالتأمل:
لماذا لا يطرح موضوع التدويل إلا كلما لاح في الأفق احتمال، مجرد احتمال، للتقدم خطوة على طريق الوفاق الوطني، في رعاية الدولة، وليس إلا في رعايتها، وبمباركة عربية، والعرب هنا هم أساساً السوريون والفلسطينيون ومعهم كل حريص على سلامة لبنان وصمود سوريا الصامدة واستمرار المقاومة الفلسطينية؟!
أليس من حقنا أن نستنتج ، إذن، إن تحقيق الوفاق الوطني (ونكرر الوطني) هو – عملياً – الإسقاط الكامل لمشروع صهينة لبنان، وضرب “للغيتوات” الطائفية القائمة فوق أرضه الصغيرة؟!
أليس من حقنا أن نستنتج، إذن، إن التدويل هو “الضمانة” أو “الحماية” التي تبادر القوى المعادية لطموحاتنا الوطنية، والقومية، إلى تقديمها إلى “أبطال الغيتوات” الطائفية القائمة، في محاولة لمنع سقوطهم بسبب من ضعف المقومات الذاتية أو نتيجة لعجزهم عن مواجهة القوى الوطنية والقومية المؤثرة والفاعلة والمقررة في المنطقة؟!
لقد طرح مشروع التدويل، لأول مرة، يوم إن كانت الحركة الوطنية في لبنان (بقيادة كمال جنبلاط، وبتحالفها الوثيق مع المقاومة الفلسطينية، وقبل ارتطامهما معاً بالدور السوري) قاب قوسين أو أدنى من تحقيق النصر النهائي على الكتائب وحلفائها في الداخل وخلف الحدود،
وليس بيننا من لا يذكر كيف ارتفعت الصيحات بضرورة الذهاب إلى مجلس الأمن، وطلب المعونة بل الحماية العسكرية من الولايات المتحدة الأميركية، أو من فرنسا، أو من كليهما معاً، وكيف طغى – يومها أيضاً – الحديث على “القوة الفرنسية” الآتية لحماية المسيحيين من خطر الإبادة؟!
ولم تخفت الصيحات إلا حين استجابت سوريا لنداء هؤلاء “المسيحيين المهددين بالإبادة” فأرسلت بجيشها إلى البقاع وبعض أنحاء الشمال! ليطمئن الخائفون ولتهدأ الخواطر القلقة، قبل أن يتنادى القادة العرب اليقية فقمة ثانية قرروا فيها إيفاد قوات الردع العربية – السورية أساساً – ، مؤمرين عليها – لأول مرة التاريخ – قائداً مسيحياً مارونياً من جبل لبنان هو الرئيس الياس سركيس.
عندها، وبعدما اطمأن أصحاب دعوة التدويل، إلى عمق التعارض في الموقف السياسي بين الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية وبين سوريا، بلعوا ألسنتهم وقالوا في “الحل العربي”، وفي سوريا ورئيسها حافظ الأسد بالذات قصائد أين منها المعلقات ومدائح المتنبي لسيف الدولة صاحب حلب؟!
… وها هو مشروع التدويل يطرح الآن ومشروع صهينة لبنان، على يد بشير الجميل وميليشياته، يدخل النفق المسدود، ملقياً ظلالاً كثيفة من الغموض المأسأوي على مصير المسيحيين في لبنان والشرق عموماً، نتيجة ادعائه تمثيلهم جميعاً من جهة ، ونتيجة ارتطام هذا المشروع بحقائق الحياة والتاريخ الخالدة، وتوهمه أنه يمكن له أن يقهر – بسلاح الغير وبخططهم – إرادة شعبه وأمته المجيدة.
وإذا كانت مناداة بشير الجميل ومن معه بالتدويل مفهومة في ضوء الهزيمة العسكرية، وبالتالي السياسية الساحقة التي منيت بها محاولته البائسة لقضم زحله وضمها إلى “الغيتو” الكتائبي، فإن مشاركة أطراف أخرى في التطبيل للتدويل والترويج له تكاد تستوي مع الخيانة العظمى في مرتبة واحدة، خصوصاً وإن بين هؤلاء موظفين رسميين ومسؤولين يشاركون – بنسبة أو بأخرى – في صياغة القرارات التي تتصل بمصير الوطن.
وهزيمة بشير الجميل في زحلة أعظم أثراً وأبقى من أن تطمسها عملية هرب إلى الأمام كرفع شعار التدويل وحث الناس على الركض وراء سرابه الخادع.
لقد دفعت زحله ثمناً باهظاً في المأساة التي أدخلها فيها بشير الجميل بقوة السلاح،
لكن عزاء أهالي زحله، وعزاءنا معهم، إن ما وقع في زحله مرشح لأن يكون نقطة التحول الكبرى في مسيرة الحرب الأهلية التي فرضتها إسرائيل على لبنان بواسطة بعض المرتبطين والمهووسين وتجار الحروب، إضافة إلى الخونة العرب من انكشف منهم السادات ومن انكشفت حقيقة دوره وأسقط اسمه بالخوف أو في انتظار الدليل الدامغ والقاطع والذي لا يأتيه الشك لا من خلفه ولا من أمامه.
لقد سقطت أسطورة بشير الجميل وميليشياته التي بدأت مؤخراً تستعير لنفسها الوصف الذي تصف به إسرائيل جيش احتلالها وهو “أقوة قوة ضاربة في الشرق الأوسط”.
سقطت الأسطورة عسكرياً في زحلة وتلالها.
وسقطت سياسياً في بيروت، وبرغم كل محاولات الإنقاذ التي تبادر بها الآن العواصم البعيدة “لحفظ ماء وجه” الشيخ الصغير صاحب الأحلام البونابرتية.
وفوق حطام هذه الأسطورة ستنبت زهرة الوفاق الوطني، باعتبار أن تحطيمها هو المدخل الطبيعي لاستعادة الأطراف المحلية أحجامها الطبيعية.
إن الكتائب، اليوم، هي غيرها قبل أسبوعين.
إن الكتائب اليوم أمام خيار مصيري: إما أن تعود حزباً سياسياً في جملة أحزاب موجودة وفاعلة ومؤثرة ولها المشاركة في القرار المتصل بالمصير الوطني، وهو مصير لا يكون وطنياً إلا بمقدار ابتعاده وتعارضه – بالضرورة – مع المشروع الإسرائيلي، وأما أن تستمر النزعة التسلطية والفاشية العسكرية في التحكم به حتى تقوده إلى المصير المحتوم، أي الاندثار والزوال مبقياً في نفوس اللبنانيين بعض الذكريات المرة، ليس غير.
ومع سقوط الأسطورة الكتائبية سقطت، على الفور، أسطورة التدويل.
وعادت حقائق الحياة والتاريخ والجغرافيا لتمارس قوتها على أرض الواقع، إن لبنان قطر عربي، مصيره يقرره شعبه ليس إلا شعبه، وهو في قلب حركة أمته في نضالها المرير ضد الاعتداء الإسرائيلي – الأميركي المستمر عليها.
وبهذا المعنى فلا حل لمسألة لبنان إلا الحل العربي، بوصفه الإطار القومي للحل الوطني، وسوريا والمقاومة الفلسطينية موجودتان حكماً كطرفين أساسيين في هذا الحل.
وهذا يعيدنا إلى الحديث عن الدولة باعتبارها ضرورة كقاعدة سياسية لأي حل،
ومن هنا فإن مهمة إيجاد الدولة لا تقل خطورة عن مهمة إسقاط الأسطورة الكتائبية.
ومن هنا أيضاً فإن الدولة – ومنذ الساعة – هي المسؤولة عن التقدم بلبنان على طريق السلامة، أو تكون وحدها المسؤولة عن وفاته رسمياً.
وطريق الدولة إلى تأمين سلامة لبنان وضمان استمراره وحيدة الاتجاه، تبدأ بالعرب وتنتهي بهم، وعبرهم تتصل بالعالم وليس من فوق رؤوسهم أو من خلف ظهورهم.
فالحل، مثل لبنان، يكون عربياً ، أو لا يكون،
ذلك إن لبنان – وجوداً ومصيراً – هو قرار عربي… إذا كان من الضروري تذكير ضعاف الذاكرة، هنا أو في بعض السرايات العربية.

Exit mobile version