المصادفة القدرية وحدها هي التي جعلت جمال عبد الناصر يموت في يوم انفكاك الوحدة وسقوط أول دولة لها في العصر الحديث.
لكن وقائع مرحلة ما بعد جمال عبد الناصر تعطي لذلك الموت – الرمز أبعاداً سياسية وفكرية خطيرة، إذ أريد لموت القائد الوحدوي أن يبدو وكأنه انبعاث للانفصال، ونقطة انطلاق جديدة للقوى الساعية إلى الانفصال والمستفيدة منه من أجل تكريسه حقيقة ثابتة ونهائية في الوجدان العربي.
ففي هذه الوقائع ما يظهر موت عبد الناصر وكأنه موت لفكرة الوحدة ذاتها، تمهيداً للقول أن الوحدة شيء عارف في حياة هذه الأمة، ترتبط بفرد واحد أحد فإن جاء حققها حتى إذا مضى مضت معه بوصفها بعض إرثه الشخصي.
وما أسهل أن يقول قائل اليوم: كانت الوحدة قبل عبد الناصر حلماً، وهي عادت إلى موقع الحلم في اللحظة التي انطفأ فيها “بلها” و”رائدها” و”صاحبها” جمال عبد الناصر.
وهكذا يساء إلى الوحدة وإلى عبد الناصر، بل إلى الأمة كلها، بتحويل طموحاتها المشروعة ورجالاتها التاريخيين إلى “أساطير” تختلط فيها الخوارق بالمصادفات بإرادات الأعداء، ويغيب عنها البطل الحقيقي والدائم والوحيد: الجماهير بتوقها العظيم إلى غد أفضل ، واستعدادها غير المحدود للنضال والعطاء، وفرض إرادتها الحرة فوق الأرض العربية الحرة.
الانفصال هو “الحاضر” الأكبر في غياب جمال عبد الناصر،
والوحدة تكاد تكتسب صفة “العدو الوحيد” في نظر العديد من الأنظمة والحكام والقوى الطامحة إلى الحكم في أكثر من قطر عربي.
لم تعد إسرائيل هي “العدو”، في نظر هؤلاء، ولا بالطبع المطامع الأميركية، ولا الإمبريالية، ولا الفقر والجوع والتخلف والقهر إذ أوقفت الحروب ضد الجميع واستمرت فقط ضد فكرة الوحدة ومنطقها.
والدليل أن جيوشاً عربية كثيرة سحبت أو أقصيت عن خط المجابهة مع إسرائيل ليزج بها في مجموعة من الصراعات الإقليمية غير المبررة إلا بمنطق تجذير الانفصال وتعميق مفاهميه، والقضاء على شبح الوحدة بنقل مشاعر العداوة من أشخاص الحكام إلى الشعوب ذاتها عبر حمامات الدم الحدودية.
… والدليل أن المصالح الأميركية في الأرض العربية تكاد تبلغ مرتبة القداسة (والهفتاه على المسجد الأقصى!)،
أما الفقر والجوع والتخلف والقهر، ولاسيما القهر، فبألف خير وعافية، وهي بالتأكيد حققت “تقدماً” قياسياً في سنوات ما بعد عبد الناصر برغم الزيادات المذهلة في إيرادات النفط، بل ربما بفضل ذلك!
وإذا كان عصر النفط صاحب فضل في ابتداع نمط جديد من الإقليمية يحمل اسمه، أي الانفصالية النفطية، فإن ثمة إقليميات أخرى تفرد ظلها الآن فوق الأرض العربية، أبرزها واشهرها الانفصالية الطائفية.
وهكذا بدلاً من النضال من أجل الوحدة توجه حالياً جهود كثيفة من أجل دعم صمود الكيانات الوطنية ذاتها لأكثر من قطرعربي
ووفقاً لدروس التاريخ فإن القوى الاستعمارية هي التي تبادر عادة إلى التبرع بتقديم الضمانات الكيانية مقابل الانسلاخ عن ركب النضال القومي والنضال الشعبي المتصل من أجل مستقبل أفضل.
الوحدة، الوحدة، الوحدة،
ذلك هو “طريق عبد الناصر”، ولذلك خرج عنه من خرج، ولم يصمد فوقه إلا القلة المؤمنة بهذه الأمة وحقها في الحياة.
وأبرز الدروس المستفادة من تجربة عبد الناصر إننا بعبد الناصر وحده لا نستطيع أن نبني دولة للوحدة، ولا أن نحمي مثل هذه الدولة متى قامت،
الجماهير المنظمة والمسلحة بالوعي والعلم والثقافة والإرادة هي القادرة على إنجاز الأهداف التاريخية الكبرى، كمثل تحرير الأوطان وتحرير الإنسان وإقامة دولة الوحدة.
وهذا لا يلغي دور القائد والرائد، ولكنه شرط انتصار القيادة المؤهلة في معارك مريرة ضد قوى عاتية كالإمبريالية الأميركية والصهيونية العالمية.
وبقدر ما تعي الجماهير دورها وتستوعب مهماتها وتؤكد حضورها الفاعل تعود الوحدة، فكرة وهدف نضال، إلى الحياة ويعود بها ومعها جمال عبد الناصر وكل شهيد آخر بذل دمه من أجل هذه الأمة المجيدة
… وموتاً ويموت الانفصال والانفصاليون،