طلال سلمان

على الطريق الهم اللبناني والقمة…

لنعترف أن الهم اللبناني هو واحد من هموم سائر العرب، وإنه في أدنى اهتمامات الدول البعيدة.. مع توكيد دعمها للجنة العربية الثلاثية وتأييدها الكلي لاتفاق الطائف!
وبهذا المعنى فالهم اللبناني لا يستحق – لوحده – قمة عربية،
ولكن من قال إن هذا الهم اللبناني منفصل ومعزول عن سائر الهموم العربية؟
إن قادة العرب في حركة لا تتوقف. كلهم على سفر. ما أن يودع واحدهم زميله حتى يركب الطائرة لزيارة زميل ثالث.
وواضح إنها ليست رحلات سياحية، وليست أيضاً لأسباب بحت سياسية، وواضح إن البلاغات أو التصريحات الرسمية المعقمة الكلمات لا تعبر عن طبيعة الهموم التي تطلبت من هؤلاء القادة أن يتجشموا عناء السفر.
إن لكل منهم همومه الخطيرة. ولقد بات واضحاً أن أياً منهم لا يستطيع بمفرده النهوض بالأعباء الملقاة على كاهله!
إن العرب عموماً، وقادتهم على وجه الخصوص، في مرحلة انعدام الوزن،
والأمر الايجابي إن هؤلاء القادة الذين لم نتعود منهم التواضع يعترفون الآن بأن هذا التوصيف ليس مجازياً، بل هو واقع مر لا مفر من مواجهته مهما بلغت قسوته.
… حتى الذين فرحوا بالتحولات الهائلة التي شهدها ويشهدها المعسكر الاشتراكي، من باب الشماتة أو من باب الاعتداد بحسن اختيار الحليف (الأميركي)، يكتشفون ساعة بعد أخرى أنهم أعجز من أن ينتفعوا بتلك التحولات، وأضعف من أن يمنعوا عن أنفسهم (وعن بلادهم) أضرارها الأكيدة.
وبمعزل عن أن “سقوط الاشتراكية”، كأيديولوجية، لا يسعد العرب الفقراء بأكثريتهم الساحقة، فإن البديل الذي فرض نفسه في أوروبا الشرقية عموماً وحتى داخل الاتحاد السوفياتي – أي تعاظم الشعور القومي – يفاقم من إحساسهم بانعدام الوزن، لأنهم – هم – قد هجروا القومية و”تحرروا” من موجباتها الثقيلة مفترضين أنهم قد بلغوا – أخيراً – شاطئ الأمان!
ثم إن هذه التحولات التي أجرجت الرئيس الأميركي بوش عن وقاره فكاد يتبناها ويعلن مسؤوليته عنها، قد جاءتهم بثمرة مسمومة لا يستطيعون رفضها لأنها تمس صلب الموقف الأميركي من التحولات، إلا وهي: تهجير اليهود السوفيات إلى فلسطين المحتلة.
فتحت رايات الديموقراطية الغربية المنتصرة على ماركسية الشرق، ينتظم طوابير اليهود الآتين ليحلوا محل عرب في أرضهم.
وباسم حقوق الإنسان (وهو حكماً يهودي)، كما تفهمها واشنطن، تلغى حقوق الفلسطينيين في أرضهم ومعهم بعض أخوانهم العرب في الأقطار الأخرى، لأن أعداد القادمين تزيد عن قدرة فلسطين المحتلة على الاستيعاب، حتى لو طرد منها الإنسان الذي لا حقوق له: صاحبها وباني عمرانها وزارع شجرها وصانع تاريخها عبر آلاف السنين!
فالديموقراطية، بالمعنى الغربي، شأن يهودي.
أما حقوق الإنسان، بالمعنى الأميركي واستطراداً الغربي، فشأن صهيوني.
وعلى قادة العرب الذين يحبون الديموقراطية (خارج بلادهم) أن يقبلوا منها الآن ما يتصل بحق اليهود في أن يقرروا أن بلادهم الأصلية ليست بلادهم، وإن بلادنا نحن بالذات هي وعد الهي لا يجوز أن ينكره حتى الملحدون من الشيوعيين!
كذلك فعلى قادة العرب الذين أنكروا دائماً على مواطنيهم أبسط حقوقهم أن يعطوا هؤلاء الذين يخرجهم الغرب من الشرق ويدفع بهم إليهم “حقوقاً” تتجاوز السياسة إلى الأرض ذاتها ومعها التاريخ!
وقلة من قادة العرب هم أولئك الذين يعون فداحة الخسارة التي منيت وتمنى بها أمتهم نتيجة لهذه التحولات التي تكتسب تدريجياً أبعاد الكارثة، إذ أنهم يفقدون أهم صديق وأقوى سند لهم في الدنيا. من غير أن ينجحوا في كسب الحد الأدنى من احترام الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية الذي أخذ منهم كل شيء ثم امتهنهم لأنهم أعطوه فعلاً كل شيء بغير اعتراض، وفي بعض الحالات أعطوه أكثر مما طلب أو توقع… ومتبرعين!!
مفارقة قاسية هي أن يجد العرب أنفسهم معدومي الوزن بعدما كانوا يظنون أنهم “ملء عين الزمن” وإنهم “قوة دولية”، وإنهم من صناع الحضارة الإنسانية في القرن العشرين (بفضل نفطهم لا عبقرياتهم)،
وأقسى ما في هذه المفارقة أنهم يفتقدون وزنهم في اللحظة الفاصلة بين تاريخين: فمن كان بلا وزن شطب وأسقط من الزمن الآتي.
لا مكان للعالم الثالث في خريطة العصر الذي يجيئنا عبر التحولات الهائلة التي أطلقتها بيريسترويكا غورباتشوف ولكنها عجزت (؟) من بعد عن استيعابها،
والعالم الثالث يعني، أول ما يعني، العرب… أو إن العرب شكلوا لفترة طويلة قيادته الرائدة، وانتزعوا بنضالهم لأنفسهم ولأشقائهم في الفقر والضعة والهوان والقهر الاستعماري مكاناً تحت الشمس.
إن العرب بحاجة إلى ما هو أعمق أثراً وأبقى من قمة طارئة أو عادية يتلاقى في أفيائها قادتهم العظام فيتنادمون ويتسامرون ويتبادلون الهموم ثم ينفضون وقد اطمأنوا إلى سلامة بعضهم البعض وإلى زوال “الغمة” التي كانت تعكر جو علاقاتهم.
العرب بحاجة إلى صدمة تنبههم إلى أنهم مهددون بأن يصيروا خارج التاريخ، ليس فقط كأمة، وإنما “كدول” وكيانات بائسة معظمها يفتقر على مبررات الوجود أو إلى أسباب الحياة.
ومن أسف أن لا مأساة فلسطين قد نبهتهم بالقدر الكافي، في الماضي،
ولا مأساة لبنان تنبههم بالقدر الكافي اليوم،
بل إن المواطن العربي يساوره شك عميق في أن تنفع أية كارثة، بالغة ما بلغت، في إجبار قيادته على التنبه وتدارك تاريخه وما تبقى من جغرافيا بلاده الأصلية!
وإذا كان وضع لبنان أقل خطراً من أن يستأهل قمة، فإن أخطر قمة مما عهد الناس وعرفوا تظل أقل بما لا يقاس من الصحوة العربية المطلوبة إزاء مجريات العصر.
هذا مع التنويه أن الوضع في لبنان ذاته يزداد تعقيداً واحتمالات تفجر بفعل التأثير المباشر للتحولات الهائلة التي تزخر بها أوروبا هذه الأيام على العالم كله، وبالذات على الأضعف فيه… والعرب هم بين طليعة الأضعف، ولبنان راية ثانية بعد فلسطين لضعفهم المشين!
إنهم أضعف من واقع ضعفهم، وسيظلون على حالتهم المزرية ما لم يواجهوا أنفسهم بالحد الأدنى من الشجاعة المطلوبة،
وهم أبأس مما تتيحه لهم إمكاناتهم، ولن يستطيع أي منهم النهوض طالما ظلت الامكانات تذهب إلى المتسببين في بؤسهم، في الداخل أولاً ثم في الخارج.
ألم تدق ساعة الحقيقة، عربياً بعد؟!
ألم يأت زمن “الخطة الأمنية” لحماية الحاضر العربي، أو ما تبقى منه، واستنقاذ ما يمكن استنقاذه من مستقبل هذه الأمة التي كانت “خير أمة أخرجت للناس”؟!
إن لبنان لا يطلب إنقاذاً لنفسه، فليس له إنقاذ منفصل عن أشقائه الكثر في وطنه الكبير.
إنه يطلب من العرب أن ينقذوا أنفسهم، فإذا فعلوا أنقذوه!
والقمة ضرورة إذا كانت علامة على الصحو، وليست اجتراراً للأدبيات القديمة التي لم تعد تنفع لا في الإنقاذ ولا في استمرار العاجزين… بالمطلق!

Exit mobile version