طلال سلمان

على الطريق النظام المولد للتطرف…

غطى الدخان الأسود وجه عملية انتخابية لم تكن شوهاء و”عايبه” ومزورة نتائجها، أقله بالقدر الذي يشترك في إعلانه المتضررون من إجرائها سواء بالمشاركة أم بالمقاطعة.
هي لم تكن، لا في البقاع ولا في الشمال، مثالية ولا كان ممكناً أن تكون، ولم يحدث في تاريخ لبنان الانتخابي إن جرت انتخابات أقل مطاعن، حتى في عز الدولة وإدارتها وانضباط موظفيها وتوفر النزاهة في حكومتها وبالذات في وزير داخليتها.
وبالتأكيد فإن الكثير من المطاعن صحيحة لكنها أولاً ليست السبب الفعلي في المواقف الحادة ضد الانتخابات (وهي بمعظمها سابقة على الأحد الماضي)، ثم إنها لا تكفي مبرراً لإلغاء انتخابات شارك فيها مئات الآلاف من اللبنانيين في محافظتين متراميتي الأطراف خصوصاً وإنهما الأوسع مساحة في لبنان.
والنقاش الفعلي يجب أن يتركز على النتائج التي أعلنت رسمياً، أو بشكل شبه رسمي، لاسيما في البقاع، واستخلاص الدلالات والدروس منها.
أولى الدلالات – إن المواطنين على درجة عالية من الوعي بدقة الظروف التي تعيشها البلاد. وإذا كانت المطاعن ومواقف الطاعنين بالانتخابات شهادات ضد الحكم، فإن مشاركة اللبنانيين، وإقبالهم على التنافس عبر خوض اللعبة الديموقراطية، واختفاء السلاح، وانعدام الصدامات الدموية (تقريقباً)، كل ذلك شهادة للمواطن المكتوي بنار الحرب الأهلية والمتشوق إلى استعادة حياته السياسية والمنتظر أول فرصة لتوكيد حقه بأن يمارس حياته الطبيعية كأي مخلوق في أربع رياح الأرض.
ثانية الدلالات – إن الحكم يفتقر إلى الشعبية، بدليل أن بعض أركانه الذين كان واحدهم لا يرى إلا ذاته ويفترض أنه “عمود السماء” قد استفاقوا إلى الحقيقة المرة وهي أنهم في عيون الناس أقل مما يفترضون بكثير.
لقد فعلت الأوراق الصغيرة السحرية فعلها، فهي مكنت المواطن من إثبات حضوره، على حساب الذين كانوا يحجبون حضوره بادعاء امتلاكهم حق التفويض الإلهي أو الوكالة الحصرية عنه.
كان الناس قد سلموا بالحكم كضرورة وكأمر واقع، فلما استكبر عليهم واستغنى بذاته عنهم، أو حاول أن ينتزع منهم الإقرار بوحدانية تمثيله لهم، رفعوا صوتهم بالاعتراض وانحازوا – عمومامً – إلى من يرون أنهم أقرب إليهم في همومهم الثقيلة، وأقرب أيضاً إلى واقعهم الاجتماعي.
من هنا سقوط “العائلات” السياسية التي كانت تحتكر التمثيل الشعبي بالإرث، ونجاح “المجهولين” بأسمائهم المعروفين بأخلاقهم وصدقهم وبساطتهم.
ومن هنا أيضاً سقوط “الزعامات” التي اهتمت بصورتها الدولية والعربية أكثر من اهتمامها بالخدمات وبالاحتياجات الطبيعية لأي مواطن، لاسيما في الأطراف المهملة والمحرومة.
وليس بعيداً عن الصحة أن يقال إن المواطن البقاعي قد عاقب الحكم البقاعي عبر أكبر رمزين من رموزه: رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي، الأول في شخصي نجله ووزيره، والثاني في لائحته المثقلة بنمط معين من المرشحين لم تعرف لهم مواقف باهرة سياسياً، ولا هم عرفوا بأنهم كانوا دائماً مع الناس في همومهم،
كان المنطق البقاعي البسيط “كلهم في السلطة باسمي ولم يحققوا لي، هنا، ما كنت أتوقعه منهم”.
ثالثة الدلالات – إن الناس وقد يئسوا من الاعتدال وقد جنحوا في اتجاه رموز التطرف أو “الأصوليين”، خصوصاً وإن “حزب الله” له في تعامله اليومي معهم وجه آخر مختلف تماماً عن الصورة المنفرة التي تروجها له أجهزة الأعلام الغربي، والتي أطل بها بعض رموزه في الماضي على المسرح السياسي وعلى العمل العام، إجمالاً.
وليس السبب الوحيد إن الناس – وكنتيجة مباشرة للحرب الأهلية ومجرياتها وللهزائم الوطنية والقومية التي توالت عليهم في السنوات الأخيرة، وأفظعها الهزيمة في حرب الخليج – قد غدوا أكثر تديناً، بل إن دور أعضاء “حزب الله” في الميدان الاجتماعي (المساعدات، المنح المدرسية، المساهمة في حفر الآبار الارتوازية، معونة الشتاء التي وزعها بسخاء على الفقراء والمعوزين ، ثم دوره الإنقاذي خلال كارثة الثلوج في الشتاء الماضي) كل ذلك قد زكى هذا الحزب وقربه من الناس. كذلك فإن الفراغ شبه المطلق الذي تركته الأحزاب والمنظمات السياسية (بما في ذلك المقاومة الفلسطينية وتنظيماتها) كان لا بد أن يملأ فملأته القوة الجديدة التي أثبتت حضوراً وحيوية وسرعة مبادرة لافتة.
أما أبرز الدروس التي لا بد من وقفة مطولة أمامها فيمكن تلخيصها في النقاط الآتية:
أ – أخطر التطرف هو ما يكون في صلب الحكم أو النظام.
وليس من شك في أن النظام اللبناني (القديم؟!) كان متطرفاً بتكوينه.
إنه نظام فئوي، أو هكذا كان حتى الأمس القريب على أقل تعديل، وكل نظام فئوي هو متطرف بالضرورة. إنه يبقي الفئات لاأخرى خارجه، ثم يحاول استرضاء بعض شرائحها بفتات من نعمه، فلا يحل المشكلة بل هو يؤخرها حتى إذا دقت الساعة انفجرت فدمرت كل شيء!
ب – ثم إن النظام اللبناني متطرف بتكوينه لأنه نظام امتيازات، والامتيازات عطايا من الأجنبي وليست حقاً مشروعاً للمتمتع بها استحقه بكفاءته أو بتفوقه في خدمة البلاد.
وبهذا المعنى يصبح الامتياز مطعناً، بالمعنى الوطني، ويصبح أحد شروط تصحيح النظام واستعادته إلى حظيرة الوطن تطهيره من رجس الامتياز الآتي أصلاً من الأجنبي.
ج – إن “المعارضات” التي تلاقت فجأة تحت لافتة مقاومة إلغاء الطائفية السياسية كانت ذروة جديدة من ذرى التطرف، وكانت لا بد أن تستولد أو أن تنشط تطرفاً موجوداً بالفعل أو كامناً لدى الفئات الأخرى التي لا يمكنها إثبات وجودها والتمتع بحقها في المساواة وتكافؤ الفرص إلا إذا ألغيت الطائفية السياسية.
ومن أسف فإن هذا الشعار هو مدار حرب بين طائفيتين الآن:
*المسيحيون، والموارنة منهم على وجه التحديد يعتبرون إن إلغاء الطائفية السياسية هو الاسم الحركي لعملية إسقاطهم من قمة السلطة، وانتزاع ما تبقى منهم بأيديهم، وإن ذلك يغير من طبيعة لبنان ودوره وموقعهم فيه “خصوصاً وإنه قد اخترع من أجلهم، فإن ذهب دورهم الممتاز فيه ذهب لبنان”،
*أما المسلمون عموماً، ومع تمايز في مواقف مذاهبهم، فيعتبرون إن إسقاط الطائفية السياسية هو المدخل الطبيعي لمشاركتهم في السلطة على قدم المساواة مع أخوانهم المسيحيين، بحيث لا يكون امتياز أو موقع ممتاز.
د – … وأخيراً فإن إسرائيل هي ، بداية وانتهاء، نموذج “ناجح” للتطرف والأصولية، وأبسط النتائج أن تأتي ردود الفعل من الطبيعة ذاتها.
ويبقى إن هذا النظام قد استولد مجموعة من ظواهر التطرف في الشارع المسيحي، عشية الاستقلال، ثم بعده. ولعل أشهر المحطات ثورة 1958 المضادة ودخول الكتائب حرم السلطة، ثم 1968 وقيام الحلف الثلاثي، ثم وصول مرشحه إلى قمة السلطة وأخيراً وليس آخراً وصول أعتى رموز التطرف إلى رئاسة الجمهورية على ظهر دبابة إسرائيلية في العام 1982.
وليس مهماً أن نقول “فليأكل طابخ السم لما طبخ”،
المهم أن يستوعب الحكم التحولات التي تجري في البلاد، وكذا في الأرض العربية من حولنا، ثم في العالم كله، قبل فوات الأوان، وإلا انتهى إلى حيث لا يريد ولا يريد أحد أن ينتهي وتنتهي – معه البلاد.

Exit mobile version