طلال سلمان

على الطريق النصر إسرائيلي والمسؤولية عربية

بين المزايدة والمناقصة خسر العرب عموماً والفلسطينيون منهم خصوصاً نقطة مهمة في سياق المواجهة المفتوحة بينهم وبين عدوهم الإسرائيلي.
ولولا شيء من التحفظ “الأخلاقي” لجاء القول أن بعض “العرب” قد شاركوا في توفير فرصة نادرة كي يحقق عدوهم “نصراً دبلوماسياً” مجانياً في موضوع المقتلعين الفلسطينيين من أرضهم والمرميين في عراء العجز العربي وصقيع “الضمير العالمي” المرتهن لإرادة إسرائيل معززة بالدعم الأميركي الدائم.
على امتداد الأيام القليلة الماضية كانت إذاعة إسرائيل وصحفها وتصريحات مسؤوليها أقرب ما تكون إلى الزغردة وتهنئة الذات بالنصر الذي تحقق، إذ تبرع الرئيس “العربي” لمجلس الأمن الدولي بلحس قرار المجلس الرقم 799 القاضي بإدانة إسرائيل وإلزامها بأن تعيد المقتلعين إلى بيوتهم في أرضهم فوراً،
ثم تصوير وزير الخارجية الإسرائيلية شيمون بيريز وكأنه “مترنيخ”، ونسب إليه الفضل في تحويل الهزيمة إلى نصر وفي إعادة كسب منظمة الأمم المتحدة ومجلس أمنها، ومن خلفها الغرب عموماً والمجتمع الدولي، وإقفال ملف المقتلعين، وفقاً لقرار إسحق رابين وإرادته.
ومن حق الإسرائيليين أن يتباهوا بهذا النصر، إذ كان موضوع المقتلعين قد آثار ضدهم الرأي العام العالمي وأحرج أقرب أصدقائهم إليهم واضطر حماتهم، بمن فيهم الأميركيون، إلى إدانة جريمة الاقتلاع،
وبدا للحظة وكأنه بالإمكان التقدم من الإدانة إلى المطالبة بفرض العقوبات، وإنزال إسرائيل من مرتبة الدولة المعصومة التي لا تخطئ ولا تجوز بالتالي محاسبتها، إلى مستوى الدول الأخرى (العادية)، التي لا تعفيها الحماية الأميركية من المساؤلة والحساب والعقاب.
أكثر من ذلك: بدت واشنطن محرجة في التمادي في إسباغ حمايتها على إسرائيل، وتعالت الأصوات تطالبها بالامتناع عن استخدام حق الفيتو لتعطيل الإرادة الدولية،
بل وجد في واشنطن ذاتها من يجرؤ على اتهام إسحق رابين بأنه أراد مصادرة القرار الأميركي بفرضه أمراً واقعاً جديداً على الإدارة الأميركية الجديدة يلزمها باتخاذ أحد موقفين كلاهما خاطئ من وجهة النظر الأميركية:
*فأما الاستسلام للمنطق الإسرائيلي وتنبيه بما يعطل رؤيتها وقرارها “المستقل” في ما يتصل بما يسمى “أزمة الشرق الأوسط” وصولاً إلى “مؤتمر السلام” والمفاوضات العربية – الإسرائيلية وبالرعاية الأميركية.
*وأما صدام مبكر مع إسرائيل وقوى ضغطها داخل الإدارة الأميركية ذاتها، بما يؤثر سلبياً على صورتها وتماسكها وقدرتها على اتخاذ القرار.
كان الحل للالتفات إلى الموقف العربي المتهالك، واستخدام ضعفه لاستنباط المخرج الذي يحفظ ماء وجه الإدارة الأميركية، ومن دون أن يؤذي صورة رابين كرجل “سلام” ومن دون أن يلزمه بالتراجع خضوعاً للإرادة الدولية.
ولقد “تكاتف” العرب في توفير المخارج:
** اندفع بعضهم مزايداً بحيث جعل مسألة المقتلعين فوق قضية فلسطين ذاتها، واعتبرها البداية والنهاية مطالباً بقطع المفاوضات أو أقله الامتناع عن استئنافها طالما لم تعد إسرائيل آخر مقتلع إلى بيته في فلسطين.
مع أن المنطقي والبديهي أن يبقي المقتلعون موضوعهم بمعزل عن المفاوضات.. فقرار إسرائيل إزاءهم يؤكد عدم جديتها في المفاوضات، وبالتالي يمكن توظيفه لفضح موقفها المتعنت والرافض للتسوية.
… خصوصاً وإن كل المعنيين بالمفاوضات، من أصدقاء إسرائيل، وقفوا ضد جريمتها باقتلاعهم من أرضهم، وكان بالإمكان تجيير تعاطفهم مع المقتلعين لتحصين موقف المفاوض العربي وتعزيزه.
** واندفع البعض الآخر مناقصاً فكاد يتجاهل كلية موضوع المقتلعين إلا لمحاولة توظيفه كوسيلة لاستجداء الحوار المباشر مع الولايات المتحدة، ووجه – بالمقابل – رسائل صريحة إلى الإسرائيليين بأن تعالوا إلى “المعتدلين” فنتحالف معاً ضد هؤلاء المتطرفين الذين يحاولون الإيحاء بأنهم القيادة الفلسطينية الجديدة.
وبغض النظر عن الاتهامات التي أطلقت في هذا السياق والتي كادت تحمل بعض أطراف منظمة التحرير وزر الإرشاد على “المتطرفين في الداخل” وتزويد إسرائيل بأسمائهم، فإن بعض المواقف الفلسطينية “الرسمية” كانت تشجع إسرائيل على التمسك بقرارها مطمئنة إلى أنه طالما لم يوحد الفلسطينيين، ومن ثم العرب، فسيظل تأثيره الدولي محدوداً وقابلاً للاستيعاب… لاسيما بالنسبة للإدارة الأميركية الجديدة.
** خارج الفلسطينيين، وبموازاتهم، صدرت عن بعض الحكومات العربية تصريحات ومواقف توحي بأنهم أقرب إلى قبول قرار رابين “التراجعي” منهم إلى رفضه والتمسك بقرار مجلس الأمن (الإدانة والمطالبة بالعودة الفورية).
هناك من اعتبر قرار رابين “خطوة متقدمة” أو “خطوة أولى على طريق الحل”،
وهناك من تبرع بدور وساطة لتسويق قرار رابين بذريعة الحرص على المفاوضات الثنائية، والأهم: بذريعة الحرص على عدم إحراج الرئيس الأميركي الجديد بيل كلينتون، وإلزامه بصدام مبكر مع “حليفه” الإسرائيلي بينما هو غير مستعد بعد لمثل هذا الصدام!!
وهناك طبعاً من اعتبر نفسه غير معني بموضوع المقتلعين جملة وتفصيلاً: “هذه ليست أول جريمة ترتكبها إسرائيل ولن تكون الأخيرة”، أو “وماذا يمكننا أن نفعله في ظل هذا العجز العربي العام”؟!.
** وجاءت الذروة في نيويورك التي طار إليها بيريز لإنقاذ ما يمكن إنقاذه فإذا به يحقق نصراً فاق توقعاته جميعاً.
وما كان ذلك ليتم لولا الدور المميز الذي لعبه عربيان:
*الأول هو الأمين العام (العربي) للأمم المتحدة الدكتور بطرس بطرس غالي، الذي يبدو أنه أراد “تسيلف” الإدارة الأميركية الجديدة، خصوصاً وإن وزير الخارجية الأميركية استبق انتقاله من واشنطن إلى نيويورك بالإعلان أن بلاده ستدفع مساهماتها المتأخرة في ميزانية الأمم المتحدة “إذا وجدها عاقلة ومؤدبة ومطيعة”،
والدكتور غالي بحاجة إلى المال الأميركي الذي أقعد التخلف عن دفعه المنظمة الدولية وعطل بعض حركتها والكثير من مشروعاتها،
ثم إن الدكتور غالي لا يحب أن يكون فلسطينياً أكثر من الفلسطينيين، وأكثر تمسكاً بعروبته من العديد من المسؤولين العرب، وطالما أن أولئك أظهروا قبولاً فلماذا يتعنت هو ويشاغب فيخرب مشروع الحل الذي يعفي واشنطن من الحرج ويحفظ ماء وجه رابين وقراره الإسرائيلي؟!.
*أما “العربي” الآخر فهو مرشح لأن يدخل التاريخ من بابه العريض،
إنه المندوب المغربي إلى الأمم المتحدة، ورئيس الدورة الحالية لمجلس الأمن الدولي، والذي استدعى المندوب الإسرائيلي ليبلغه نص البيان الخارق والخارج عن المألوف والذي يعلن فيه اغتيال قرار مجلس الأمن الرقم 799 والمقتلعين معه وكذلك المجلس الدولي ومنظمته الأم!
المندوب المغربي، واسمه أحمد السنوسي، يدعي أن مندوب فلسطين (المراقب) ناصر القدوة (وهو ابن شقيقة ياسر عرفات) كان أبلغه الموافقة على نص البيان!! (برغم أن القدوة عاد فأنكر موافقته المسبقة)،
لكن عرفات كان قبل أيام فقط في المغرب، والتقى الحسن الثاني، وهما بالقطع قد تداولا في مسالة المقتلعين آخذين بالاعتبار رئاسة المغرب لدور الانعقاد الحالي لمجلس الأمن،
ما علينا،
المهم أن العرب قد أعطوا إسرائيل نصراً مجانياً إضافياً، قد يكون تكتيكاً فقط ودبلوماسياً فقط، ولكنه نصر في أي حال أفادها في طمس واحدة من جرائمها الخطيرة ضدهم، ومكنها من أن تؤكد للرئيس الأميركي الجديد صحة نظريتها إزاء العرب: هؤلاء لا يستأهلون أن تفاوضهم، أضربهم فقط فيأتون إليك صاغرين!
والحمد لله على كل حال،
خصوصاً وإن الحكومة المصرية التي تكاد تتسول الخبز اليومي للمصريين قد قررت شراء كامل الإنتاج اللبناني من التفاح،
… هذا بينما ما تزال “المملكة”، مملكة الصمت الأبيض والموت الأسود، تمتنع، ومعها الكويت وبعض الخليج، عن فتح أبوابها أمام الإنتاج الزراعي أو الصناعي اللبناني بذريعة التخوف من تسلل المنتجات الإسرائيلية إليها،
هذا بينما يلتقي وزير مال مملكة المال الاقصتاديين الإسرائيليين استعداداً لمستقبل التعاون،
وبينما لم يصدر عن أي طرف عربي مشارك في المفاوضات متعددة الأطراف (أي مفاوضات التعاون المستقبلي مع إسرائيل) قرار بوقف تلك المفاوضات التي تعني تلهفاً بل استماتة على الصلح بالشروط الإسرائيلية، على حساب شعب فلسطين وأمته جميعاً، ومن ضمنها البضع مئات من المقتلعين المتروكين للصقيع والثلج والريح في مرج الزهور…
هل هذا مجرد كرم عربي، إنه نموذج في الايثار، ايثار العدو على الذات؟!.
أم أنه الأمران معاً، في ظل هزيمة بلا حدحود؟!.

Exit mobile version