طلال سلمان

على الطريق النداء – الإنذار!

يستحق النداء الذي أطلقه، أمس، في بيروت، “بعض كبار الضباط والقادة” بلسان رئيس الأركان العامة في الجيش ونائب رئيس المجلس العسكري، موجهاً إلى “أخوانهم في السلاح” وقفة جدية من اللبنانيين جميعاً، كما من الأطراف المعنية بالأزمة في لبنان. عربية كانت أم أجنبية، باعتباره نقطة تحول ومؤشراً واضح الدلالة على خطورة ما آلت غليه حال الدولة بمؤسساتها المركزية الموحدة.
والوقفة الجدية ضرورة ملحة للأسباب الآتية:
1 – إن النداء المصاغ بلغة تنضح بالحرص على الجيش والدولة والوطن، يحمل تواقيع مجموعة من الأبناء الشرعيين للنظام ومؤسسته – الركيزة، فهم الضباط الكبار الذين نشأوا في الجيش وعملوا له وفيه. لم يعرف عنهم التطرف أو التحزب، أو التعصب أو النقص في الولاء أو شبهة العلاقة مع أي طرف خارجي،.. وحتى علاقاتهم بمراكز النفوذ والفعالية السياسية محالياً تأتي من داخل الشرعية لا من خارجها، فالمتصل منهم بسليمان فرنجية متصل برئيس جمهورية سابق. والمتصل برشيد كرامي متصل برئيس حكومة حالي (وسابق وربما لاحق)، وكذلك المتصل بالدكتور سليم الحص، والمتصل بنبيه بري أو وليد جنبلاط متصل بوزير حالي وبقطب له ثقله الشعبي وعلى قاعدة القبول أو التسليم بالكيان ونظامه الفريد.
2 – إن النداء الهادئ النبرة والقوي الحجة يعكس حرصاً على استنقاذ، الجيش، أو ما تبقى منه، وإبعاده عن نيران الحرب الأهلية التي تنذر النذر المتعاقبة منذ “الانقلاب الدموي” لـ “القوات اللبنانية” و”الانقلاب السياسي” في موقف الحكم، بتجددها كأعنف وأوسع ما تكون حرب أهلية في بلاد ممزقة الأوصال مهيضة الجناح مدمرة الاقتصاد كلبان 1986.
وبقدر ما كان الاتفاق الثلاثي محاولة جادة لتوفير مدخل إلى الحل الوطني للأزمة في لبنان فإن نداء “بعض كبار الضباط والقادة” هو محاولة جادة لسحب الجيش من حلبة الصراع السياسي المرشح لأن يتفجر اقتتالاً… وسحب الجيش يعطل مثل هذا الاحتمال أو يحد من مخاطره المريعة.
3 – إن النداء – السابقة هو إعلان عن نوايا توحيدية صريحة لدى مطلقيه، في حين إن الرد الأولي الصادر عن مدعي الوصاية دائماً على الجيش (الكتائب ومن بعدها “القوات”) هو إعلان عن نوايا تقسيمية صريحة…
ففي النداء تحديد قاطع للعدو الإسرائيلي (وللاحتلال) ولواجب الجيش الوطني في مواجهته التي من شروط نجاحها حماية وحدة البلاد وصيغة التعايش وإدامة المؤسسات والوقوف ضد أي انتقاص من حريات المواطنين وطموحاتهم.
وفي الرد تشكيك بوطنية مطلقي النداء، وتحريض علني على التقسيم بذرائع تظل الطائفية مهما غلقت، وتصب بالتالي في مصلحة العدو الإسرائيلي والمنتفعين من استمرار احتلاله أو المتواطئين معه ضد بلادهم.
4 – إن النداء بتوجهه الحار إلى “رئيسنا حضرة العماد قائد الجيش – رئيس المجلس العسكري وإلى أعضاء المجلس العسكري. وإلى أركان الجيش بما نعرف عنهم من وعي وطني وحس بالمسؤولية، لا يعكس فقط انضباطية مسلكية نادرة في ظل ظروف التفكك والتشرذم والتسيب كالتي تعيشها سائر المؤسسات، بل هو يعكس قبل ذلك الرغبة في تجنب نقل الحرب الأهلية إلى داخل الجيش أو جعله أدانتها الأساسية كما جعلها الحكم إبان حروبه ضد الجبل والضاحية وبيروت وكل من اعترض على خطأ في ممارساته.
5 – إن نداء “معظم الجيش” هو جهد إضافي يبذل من أجل توفير مخرج سلمي من المأزق الذي تسبب الحكم في ماصرة البلاد داخله، وذلك بالضغط على هذا الحكم والحد من قدرته على إلحاق مزيد من الأذى بالبلاد والعباد.
وبديهي إن هذا النداء يحاول أن يشكل، وحتى إشعار آخر، البديل عن البلاغ الرقم واحد، إذ هو يعكس رغبة صادقة في تجنب العمل الانقلابي والعنف عموماً،
ولكنه، بالمقابل، يشير إلى قدرة الجيش وحقه في لعب دور في التغيير حيث يجب التغيير، لمنع المزيد من الدمار، والقتل والتمزق في أوصال البلاد ومؤسساتها، ولاستبقاء شيء من الأمل في غد، أي غد.
6 – إن هذا النداء الذي يشكل نقلة نوعية في منهج كبار ضباط الجيش وطريقة تعاطيهم مع المسألة الوطنية، بأبعادها الكاملة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يعكس وعياً متقدماً كان اللبنانيون يفتقدونه في بيانات الجيش حين يزج به في الصراعات الداخلية، ويستعدى ضد شعبه في هذه المنطقة أو تلك، وغالباً على أساس فئوي.
فالنداء يكاد يكون البيان السياسي الأول للجيش، الأول بأفق وطني، ومن منطلق الحرص على لبنان كله واللبنانيين جميعاً على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم السياسية وتوزعهم الجغرافي، وبوعي لطبيعة العدو ولشروط مواجهته حيثما يحتل شيئاً من الأرض أو شيئاً من الإرادة الوطنية.
7 – إن النداء هو إنذار أخير بقرب نهاية الدولة واندثار الوطن،
فماذا يتبقى من بلاد ليس فيها حكم قادر على الجلوس مع حكومته إلى طاولة عمل (أو حتى طعام) واحدة، وعلى التواصل مع المجلس النيابي، وعلى إقناع جيشه بقبوله قائداً أعلى من موقع الحكم والمرجع النزيه والأب الصالح وليس من موقع الطرف المخاصم لأكثرية اللبنانيين؟!
والجواب مطلوب من الموجه إليهم النداء، وأساساً من العماد ميشال عون الذي سيكون موقفه الصعب واحداً من أمرين: أما إشارة بدء الحرب الأهلية الجديدة، والعياذ بالله، وإما البشارة بإمكان الخلاص واستعادة حلم الوطن الموحدة أرضه وقوى شعبه والمؤسسات.
وموقف العماد عون يقررر وإلى حد كبير، ليس فقط ما إذا كان لدينا جيش بل قبل ذلك ما إذا كان لدينا بعد الحق بأمل في دولة ما وفي وطن ما، ولو في أحلامنا التي تلتهمها كوابيس الحرب الأهلية المفتوحة، وهي حرب يتحمل مسؤوليتها – بداية وانتهاء الذين حكموا ويحكمون وهم أصغر من أن يكونوا قادة وأعجز من أن يكونوا مجرد مديرين لأزمة خطيرة كالتي تعصف لبنان..
… ويبقى استدراك أخير:
إن بين موقعي النداء، المتهمين على لسان مصادر الحكم ومناصريه الآن، بالتعصب والفئوية، من ذهب في ولائه للجيش والحاكم والنظام إلى حد ضرب بيوت أهله وأقاربه وطائفته، ولم يتراجع ويثب إلى رشده إلا بعدما كاد يجرفه طوفان الغلط.
وهذه مسألة تستحق أن يتوقف عندها العماد ميشال عون، حتى لا يكتشف متأخراً إنه دفع إلى موقف مشابه وإنه مهدد – ومعه البلاد – بطوفان آخر لا يبقى ولا يذر!

Exit mobile version