طلال سلمان

على الطريق المنتحرون لحساب الغير…

كل عربي يفتقد اليوم أخاه العربي ويجد نفسه ضعيفاً، مهاناً، مستوحداً، مستفرداً ومهدداً بخسارة ثوابت يقينه وأسباب حياته في غياب “التضامن العربي”.
إن لبنان، مثلاً، يفتقد مساعدة أخوانه العرب وهو يحاول الخروج من تحت أنقاض الحرب الأهلية والعودة إلى دوره الحضاري في خدمة قضايا أمته ومن أجل تقدم أخوانه في مختلف الأقطار وعزتهم واتصالهم بالعالم المعاصر. وها هو جنوبه يحترق بالقصف والغارات اليومية ولا من يطفئ النار في القلوب قبل البيوت والبساتين والجسور المنسوفة.
والفلطسينيون، مثلاً، يفقتدون (حتى وإن كابروا بتأثير وهم القرار الوطني المستقل) حرص أخوانهم على قضيتهم المقدسة التي تسكن الوجدان القومي والديني، فالقتال من أجل فلسطين وحقوق شعبها يندرج في خانة الدفاع عن الذات وليس التصدق على “الآخرين”، وبالتالي فهو لا يرتبط كلية بمسلك هذا القائد الفلسطيني أو ذاك لأنه يتصل أصلاً بصناعة المصير القومي أي بمصير كل عربي، فوق أرضه وأيضاً بمصير العرب جميعاً فوق أرضهم جميعاً.
والليبيون يحاصرون ولا مغيث، تتوالى عليهم التهديدات بالعقاب الجماعي والتجويع وربما بالاجتياح المسلح فلا يسمعون من أخوتهم العرب ما يفترض أن تمليه عليهم رابطة المصير الواحد من تضامن وتكاتف ومساندة (ضمن منطق الدفاع عن الذات)، وما يصدر من شجب أو استنكار لا يتعدى الإطار الأخلاقي وفي باب تبرئة الذات من دم هذا الصديق،
أما السوريون فيواصلون معركتهم الصعبة من أجل تأمين الحد الأدنى من التضامن العربي ويبذلون فيها من الجهد بعض ما يدخرون لمواجهة العدو، وبالكاد يتوصلون إلى نتيجة ما مع أولئك الأشقاء الذين تجاوزوا الأميركيين ومطالبهم وتورطوا فصاروا يقاتلون لحساب الإسرائيلي!
المفزع أن معظم هؤلاء المعنيين ينسى نفسه وهو يندفع ليظهر مدى إخلاصه للأميركي.
فهل ستكون السعودية، مثلاً، أكثر أمناً وأماناً إذا استمر لبنان مهدماً تنهش الطائفية (وضمنها إسرائيل) وحدة أرضه وشعبه؟!
وهل ستكون الكويت، مثلاً، أكثر استقراراً ودعة إذا ما اجتاحت إسرائيل سوريا المستفردة، مستغلة انصراف كل عربي إلى “همه” الذاتي وكأنه فعلاً غير هموم أخوانه جميعاً؟!
وهل ستتوفر للجزائر، مثلاً، أو للمغرب، شروط السلامة والعزة والرخاء إذا ما حوصر الليبيون وفرضت عليهم المقاطعة الاقتصادية فمات أطفالهم – كما يموت أطفال العراق – بسبب النقص في الغذاء والدواء وأبسط حقوق الحياة الطبيعية حتى في بلد متخلف؟!
هل نكبة قطر عربي هي الطريق الوحيد “لسؤدد” أسرة مالكة في قطر عربي آخر؟! وهل استعباد بعض الشعب العربي وشطبه وإلغاء وجوده وحقوقه في أرضه هو “ضمان” لحرية البعض الآخر من هذا الشعب في قطر آخر و”بوليصة تأمين” لوجوده وحقوقه في أرضه وثرواتها المختزنة؟!
إن هؤلاء الذين يرون في الأميركي “محرراً” يضغطون على أخوانهم العرب لكي يبصموا على وثائق استسلام للإسرائيلي، ولكنهم في الوقت نفسه يشطبون العراق من الخرائط في الكتب المدرسية، ويشطبون بغداد (التاريخ) من دوائر المعارف.
إنهم يعترفون ويستعجلون غيرهم للاعتراف بإسرائيل، ولكنهم بالمقابل ينكرون عروبتهم ليتنصلوا من واجبهم تجاه أنفسهم قبل أن يكون تجاه أشقائهم سواء في لبنان أم في فلسطين أم في ليبيا أم في سوريا.
إنهم يدفعون العرب دفعاً للسلام على شامير ومجالسته ومباسطته واقتسام الأرض والماء والكلأ والنار معه، ولكنهم يمنعون عن أخوتهم الحد الأدنى من الحقوق الطبيعية، كأنما “رشوة” شامير ستحميهم منه، إذا ما استفردهم، أو كأنما سيتهم الأميركي بمصيرهم بعدما ضمن نفطهم وهيمن على الموقع الاستراتيجي الحاكم لبلادهم التي يراها أرضاً بلا صاحب.
وليس النقاش، هنا، في عمق الشعور الوطني لدى هؤلاء، وإنما في مدى إخلاصهم لأنفسهم ولأولادهم ومستقبلهم في أرضهم (القطرية) ذاتها.
إن هؤلاء كمن يلحس المبرد، بل إنهم كمن ينتحر مفترضاً إنه بذلك قد أودى بخصمه ووفر لنفسه السلامة!
فقاتل شقيقه هو قاتل نفسه، والمورط غيره هو من سيدفع ثمن التورط بالنتيجة، والمستسلم سيظل هو المطالب بالتكمفير عن جريمته.
… ومن قال إنها نهاية الكون، وإن المؤتمر – ولو تحت الرعاية الأميركية – سيأتي بحلول سحرية يقبلها الإسرائيليون ولا يرفضها العرب، حتى تحت الضغط الأميركي؟!
إن الأميركي ذاته لا يقول مثل هذا الكلام، ويتخير ألفاظه وتصرفاته بدقة، ويحرص على إظهار عدم انحيازه (بالمطلق) إلى إسرائيل… فلماذا يذهب “العرب” في هذا الاتجاه إلى أكثر مما يذهب “صديقهم الكبير”، حتى لا نقول ولي أمرهم، رئيس الكون؟!
إن المفاوضات حرب بنوع آخر من السلاح،
وأبسط الشروط لكسب هذه الحرب هو تضامن الضحايا، وهم هنا العرب، كل العرب، ملوكهم وأمراؤهم والرؤساء ثم الرعايا،
ومخطئ من يصنف نفسه خارج خانة الضحايا،
فالمفرط والمتسرع والسمسار والمنحرف هم بين ضحايا الغد إذا هم افترضوا أن المتمسك بأرضه وبتاريخه وبشرف أمته هو ضحية اليوم. وفي حالة كهذه لا شيء يمنع من أن يجيء هذا “الغد” قبل “اليوم”، فالشعوب ليست قطعاناً من الماشية، وليست مخلوقات بلا ذاكرة، والحلال هو الحلال والحرام هو الحرام، والتاريخ هو الدين وعلى أساس الجغرافيا وليس على أساس الأرصدة المحجوزة في بنوك اليهود في نيويورك.
الشيخ والحلم…
لا نقص في الأدلة، لكن الوقائع اليومية تأتي لتؤكد حقيقة صارخة مفادها: إن الطائفية لبنان لبنان موضوع استثمار سياسي، وإن محترفي العمل السياسي هم الأكثر “طائفية” لأنهم الأكثر انتفاعاً بهذا الاستثمار الشيطاني.
وتقضي الأمانة بالاعتراف إن رجال الدين، عموماً، أقل “طائفية” من السياسيين عموماً، من دون أن يعني هذا الكلام دعوة للتسليم المطلق بحق المعممين (مسلمين ومسيحيين) في أن يكونوا مرجعية سياسية، أو بالأحرى “المرجعية السياسية”.
إن الصادق في تدينه وتقواه وإيمانه بالأرض والإنسان يتصدر الصفوف كضمانة وطنية في وجه الطائفيين، في حين إن المتاجرين بأثوابهم ومواقعهم الاجتماعية والهالة المعنوية يشكلون “متاريس” للسياسيين يحتمون بها ويقاتلون من خلفها “المجتمع المدني”.
أحد أبرز المناضلين من أجل هذا المجتمع المدني الغائم الملامح في لبنان هو العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدينز
إن فكره أرقى من منصبه “الرسمي” كنائب لرئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ورؤياه أعمق من أن تتجلبب التفاسير الطائفية لحقوق البشر في الخبز مع الكرامة، فهو مسكون بهواجس العصرنة وأهلية الإنسان العربي (والمسلم) لاقتحام العصر والانسجام مع روحه من دون أن يخسر إيمانه بخالقه أو بتاريخه أو بأرضه أو بذاته أو بهذه جميعاً.
والندوة التي نظمها المجلس بإشراف مباشر من الشيخ شمس الدين يومي الجمعة والسبت في فندق سمرلاند تحت عنوان إنماء لبنان الاجتماعي شهادة لهذا المصلح بقدر ما هي شهادة على السياسيين الذين حضروا – محرجين – فخطفوا أضواء حفل الافتتاح ثم افرنقعوا تاركين المحاضرين يحاضرون في بعضهم البعض ومنظمي المؤتمر.
لو كانت هناك دولة لجاز القول إن مهمة كالتي تصدى لها الشيخ محمد مهدي شمس الدين هي مهمتها،
ولو كانت هناك أحزاب وطنية كالتي كانت في البلد ذات يوم لقامت، ربما، بهذه المهمة،
لكن الفراغ يلزم من يستشعر في نفسه المسؤولية بالتصدي لمثل هذه المهمة.
والشيخ المسكون بالأحلام الكبيرة واحد من هؤلاء الذين لهم “أجران”: أولاً لأنه يقوم بواجب (حتى لو كان نظرياً لغيره) وثانياً لأنه أسهم في كشف أولئك المتقاعسين عن الاهتمام بشؤون المجتمع المدني عملياً ونظرياً.
نقابة بلا محام؟!
تكشف “انتخابات” نقابة المحامين أن هذه “الجمهورية الثانية” مشوهة بالولادة ومرشحة لأن تكون أكثر تشوهاً بالممارسة مما افترض الأسوأ ظناً والأعظم استرابة بالحلول التلفيقية المرتجلة لمعالجة سرطان كالطائفية اللبنانية.
كان الظن أن ممارسات بعض أطراف الحكم هي التي تدفع هذه الجمهورية التعيسة بالتخلف والتعصب والعجز عن مغادرة مناخ الحرب الأهلية.
أمس قدم المحامون، وهم في عداد النخبة والطليعة و”المستنيرين” و”المثقفين”، دليلاً حسياً على أن الحرب لم تكن عاقراً، وإن بذرة الميليشيا الطائفية والقتل (المادي أو المعنوي) على الهوية مستشرية بأكثر مما يحسب الحالمون بوطن وربما بأكثر مما تحتملصيغة الطائف ووفاقها الوطني العتيد.
ليست فضيحة طائفية. إنها فاجعة وطنية لم يكن أحد ليتمنى أن تصدر عن بؤرة مغلقة، بالتعصب فكيف بمن يناط بهم الرجاء لشق الطريق إلى … العلمانية وتوطيد أركان المجتمع المدني والحياة الديمقراطية؟!
إن المحامين قد يفتقدون من يدافع عنهم، غداً، ومؤكد أن نقابتهم ذات التاريخ أكبر المتضررين من هذه الخطيئة التي ارتكبت نتيجة أمر دبر بليل.

Exit mobile version