طلال سلمان

على الطريق الملف الوطني أولاً…

محير أمر “الجبهة اللبنانية”، فهي في يوم تجزم بانعدام المحاور، وتتصرف على أساس إنها محتكرة السياسة والقرار والكلمة الفصل بالنسبة للمصير الوطني، وهي في يوم آخر تشكو “برودة” الذين لا يرون رايها في ما تطرح، وتستغرب ألا يلتحقوا بها فوراً وبغير مناقشة.
و”الجبهة اللبنانية” تسلك، منذ قيامها، المسلك ذاته الذي أخذته على خصومها حين كانوا هم في مثل وضعها الآن، وكانت اطراف “الجبهة” في مثل وضعهم هم الآن، بل إنها أعنف منهم في ممارسة الخطأ وأشد وأكثر عنواً وتجبراً واستقواء بالآخرين، سواء أكان هؤلاء عرباً أم دولاً في ما وراء البحار… ناهيك بمن وراء الحدود!
وكيف السبيل إلى اتفاق، أي اتفاق، إذا ما انعدم الحوار؟
… وأول شروط الحوار أن يعترف كل طرف بالطرف الآخر.
أما شرط الحوار الوطني فإن تسلم الأطراف جميعاً بأن مصير الوطن يعني كل مواطن فيه، وبالتالي مختلف القوى السياسية، يسارها واليمين والوسط، بغض النظر عن حجوم كتل المحازبين والأنصار (حتى لا نقول الميلشيات).
ومن حيث المبدأ، فكل لبناني يرغب في الحوار والمحاورة، وكل لبناني مؤمن بضرورة الوفاق الوطني، وكل لبناني يهمه أن يوجد حدا أدنى من العلاقة مع أي طرف مودود في لبنان.
لكن المشكلة مع “الجبهة اللبنانية” هي هذا الرفض الكامل الذي تواجه به كل التراث الوطني في لبنان، وكل القواعد التي درج عليها لبنان منذ استقلاله حتى اليوم، بل كل نقطة التقى عندها مسؤول لبناني مع مسؤول آخر لبناني مثله لحل مشكلة أو لدفع خطر أو لتحقيق إنجاز.
إنها تنظر إلى الماضي اللبناني بعين الكافر به كله.
على سبيل المثال، هي ترغب اليوم في فتح الملف الفلسطيني، ولكنها لا تقبل من الغير اللبناني مثلها وأكثر، أن يتكلم بلغة التراث السياسي اللبناني، ولغة التجارب الواقعية، ولغة المنطق العلمي الوطني.
لقد أبرمت الدولة اللبنانية في يوم من الأيام اتفاقية مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية هي اتفاقية القاهرة، وهذه الاتفاقية قاعدة قانونية وسياسية وعسكرية لبنانية وعربية ودولية للتعامل بين الطرفين لكل منهما شرعيته وعلى كل منهما واجباته.
ونريد أن نسأل: لماذا تكون اتفاقية، رضي بها في حينها كل المسؤولين اللبنانيين من دون استثناء، ووافق عليها، على الأقل زعيمان من زعماء “الجبهة” كانا في ذلك الوقت عضوين في الحكومة اللبنانية التي أبرمت في زمنها الاتفاقية… لماذا تكون اتفاقية من هذا النوع غير لبنانية وغير صالحة لأن تكون نقطة لقاء بين أطراف متعددة!
هل الذين أبرموا هذه الاتفاقية من اللبنانيين، والذين أيدوها في حينها، والذين سكتوا عنها… هل يكون كل هؤلاء ثوريين وتقدميين وعروبيين إلى آخر هذه الأوصاف التي ترى فيها “الجبهة” وصمات، ويرى فيها أصحابها شرفاً وكرامة؟
إن الذين أبرموا هذه الاتفاقية، ونحن نتكلم عنهم لا عن الفلسطينيين، إنما فعلوا ذلك من منطلق سياسي وعسكري وقانوني سليم مئة في المئة، فقد انطلقوا من نقطة الاعتقاد بأن للبنان مصلحة في أن يقيد الفلسطينيون أنفسهم بقواعد للسلوك والتصرف، ويلزموا حدوداً في عملهم تراعي مصلحة لاأرض اللبنانية والشعب اللبناني.
وكان الفلفسطينيون، كثورة، أحراراً حتى تلك الاتفاقية، إلا مما تمليه عليهم مصلحة هذه الثورة. فهم لم يكونوا ملتزمين لا بالسيادة اللبنانية ولا بالنظام اللبناني ولا بأي اعتبار ما عدا اعتبار أهداف ثورتهم، فجاءت الاتفاقية تلزم هذه الثورة باعتبارات فيها مصلحة لبنان ومصلحة السيادة اللبنانية بالذات.
فبين ما قبل الاتفاقية وما بعد الاتفاقية اختلاف نوعي رأت فيه الكثرة الساحقة من اللبنانيين ما يستحق التهليل والترحيب، بعكس الفلسطينيين الذين رأى فريق كبير منهم في هذه الاتفاقية تقييداً للعمل الثوري، بينما الثورة بطبيعتها غيري مكلفة بمراعاة منطق دولة ونظام.
وبدلاً من أن تعترف “الجبهة اللبنانية” بالمكسب الذي حصلته هذه الاتفاقية للسيادة اللبنانية وللبنان، فتقبل به قاعدة للاتصال والحوار والوفاق، وجدناها تثور على الاتفاقية وتكفر بها كما هي ثائرة الآن على كل ما في تراث لبنان السياسي من مواثيق وأعراف وآداب رافقت الحياة السياسية اللبنانية من مطلع الاستقلال حتى ردة “الجبهة اللبنانية”، وجعلت من لبنان في يوم من الأيام بيئة الديمقراىطية الأولى في العالم العربي، بل جعلته منارة من منارات التفاعل الفكري والحضاري.
لكن مصيبتنا مع “الجبهة اللبنانية” إنها ثورية، ولككن من معدن الثورة المضادة، ذلك المعدن الذي يثور على كل ما هو إيجابي، وكل ما هو واقعي في التراث، ليحاول أن يصوغ بغير قوى الوطن الذاتية، واستناداً إلى الشيطان الاستعماري بل الصهيوني، لبناناً جديداً قائماً على الغرض والتعصب والعمى عن الواقع والمثال في وقت واحد.
كيف يمكن للبناني أن يحاور “الجبهة اللبنانية” أو يصبر على منطقها، أو يهادنها أو يؤجل المجابهة لها، وهو يراها ترفض تاريخاً وطنياً بجملته، وقواعد تصرف ومواثيق رضي بها اللبنانيون لا لأنها آمال قومية أو مطامح وطنية بعيدة بل لأنها الحد الأدنى المقبول لتسمي بقعة من الأرض وطناً، ولتقوم عليها حياة مشتركة بين لبنانيين لا يزال منهم، مع الأسف الشديد، من يرفض قبول المنطق الوطني والقومي العادي ويتخوف من العربي أكثر مما يتخوف من الأجنبي؟
إن اتفاقية القاهرة، فضلاً عن الكسب الذي حققته للسيادة اللبنانية فخدمت لبنان دولة ونظاماً لا شعباً فقط، كانت في نظر أكثرية اللبنانيين تلك الدرجة المتواضعة من المشاركة في القضية الفلسطينية التي نقول إنها قضية كل العرب، ونحن لا نزال، رسمياً على الأقل، نعتبر أنفسنا جزءاً منهم.
فإذا كانت اتفاقية أبرمها مسؤولون لبنانيون لمصلحة لبنانية واضحة، ورضي بها خصوم “الجبهة اللبنانية” على أنها أبسط موجبات الالتزام الوطني والقومي… إذا كانت اتفاقية هذا هو سبب وجودها والرضى بها، أصبحت مرفوضة من “الجبهة اللبنانية” فمعنى ذلك أن الجبهة هي في سبيل تاسيس وطن غير الوطن اللبناني الذي نعرفه، ودولة غير الدولة التي عاش فيها اللبنانيون حتى الآن.
إن مسلكها يعني أن الاستقلال في العام 1943 ليس إلا غلطة، وإن التجارب أثبتت، كما قال ادوار حنين “إن لبنان فيب كل مرة يستقل يهتز، وفي كل مرة تحميه حماية يعتز”.
ويعني أن الميثاق الوطني كان ميثاق طوائف وعجز عن تأمين الولاء الوطني للبناني.
ويعني أن الديمقراطية اللبنانية ساحة للمخربين وللآراء الهدامة.
ويعني في آخر المطاف إن اتفاقية القاهرة مؤامرة على لبنان!
وليس ما يمنع أن نناقش ونحاور “الجبهة” على أساس إنها تحمل فكراً انقلابياً وثورياً ومعادياً للنظام، أو هداماً وتخريبياً ، كما كانت ولا تزال تصف فكر خصومها السياسيين جميعاً.
المهم فقط أن تتذكر “الجبهة” أن لا لبنان ولا “اللبنانية” احتكار لها، وإنها إن ظلت على تعنتها هذا قد تريح نفسها لكنها – وبالتأكيد – ستخسر لبنان… لبنان الذي نعرفه ونحبه ونريده أن يبقى وطناً وموئلا للحرية والأحرار وقدوة للفلسطينيين خاصة وللعرب عموماً.
… وكيف يمكن أن نتفق مع هؤلاء وأولئك إذا كنا مختلفين في ما بيننا؟!
وإذا تعذر اتفاقنا على الاختلاف معهم، فلا أقل من أن نتفق على التفاهم في ما بيننا، تمهيداً للاتفاق معهم وإلا خسرنا كثيراً وخسروا قليلاً.
… باعتبار أنهم لا يملكون الكثير ليخسروه!

Exit mobile version