طلال سلمان

على الطريق المقاتل واللاجئ!

لا تبنى الأوطان بالصدقات، ولا ينفع في تحصينها التباكي واستدرار العطف واستيقاف أثرياء النفط على أطلال ما هدمه العدو الإسرائيلي،
فأمام الأطلال وخيام اللاجئين والبيوت المنسوفة ومنظر البؤس قد ينفعل البعضن وقد يبكون تأثراً وإشفاقاً، وقد يمصمصون شفاههم لوعة وتحسراً، وقد يخبطون كفاً بكف، وقد يرمون بعقالهم والكوفية أرضاً تعبيراً عن الانفعال الكسيح وقد… قد يمدون أيديهم إلى جيوبهم ليدفعوا بعض القروش صدقة وإحساناً، أو “كفارة” عن عيشهم في القصور الحديثة البناء، المكتملة التهجيز بوسائل الإنارة والتدفئة والتبريد، والمخابئ السرية للخمور، وأجنحة الحريمز
لكن إرادة الصمود، وإرادة القتال، وإرادة العودة إلى الأرض هي الأقوى: أقوى من المحسنين والمتصدقين، وأقوى من الشفقة والبكاء والتباكي، وأقوى أيضاً من حراب العدو وقنابله وأحزمة الديناميت الناسفة،
أمام إرادة الصمود، إرادة بناء الوطن والبقاء فيه تتوارى المشاعر الخيرية ، صادقة كانت أو مفتعلة، ويتنامى ويتأكد الشعور بالمسؤولية القومية، وتتواضع التبرعات وتهزل أمام الواجبات المستحقة.
هذه خلاصة الدرس الفلسطيني: فطوال عشرين سنة، ظل الفلسطينيون لاجئين يعيشون أوضاعاً هي البؤس بعينه، ومع ذلك ظل اهتمام العرب – فقراء وأغنياء – قاصراً على الجمعيات الخيرية وأهل البروالتقوى والطامعين بمساحات إضافية في الجنة!
ثم مع استفاقة إرادة القتال، وتعاظمها لدى شعب فلسطين، وخروجها من الصدور إلى ميدان الصراع المباشر مع العدو الإسرائيلي، عبر دهاليز التخاذل العربي، سقطت الجمعيات الخيرية وأساليبها وقروشها واندثرت وعم الأرض العربية – باتساع مداها – الإحساس المهيب بالمسؤولية عن فلسطين وارضها ونضال شعبها العظيم… فجاءت الملايين تسعى إلى الفلسطينيين، وأخذت تتوالد وتتكاثر وما تزال. ومع تكاثرها يتزايد في النفس العربية الإحساس بالتقصير والخجل من الذات عما سلف من أيام “البخل” الذي يكتسب هنا دلالة سياسية عميقة تكاد تصل إلى حافة تهمة الخيانة العظمى.
وفي درس مصر (وسوريا) بعد هزيمة 1967ن مثل هذا المعنى،
إن الآخرين معك مقاتلاً، أما حين تتحول إلى لاجئ فإنهم لا يمنحونك أكثر من شفقتهم، ثم يبتعدون هرباً من عارك… عارهم!.. أما وأنت تقاتل فإن الكل يتقرب منك أما ليقاسمك شرف النصر الموعود، حتى لو لم يتحقق كاملاً، وإما ليدرأ عن نفسه تهمة التخلي والتفريط وبيع القضية.
… حتى لبنان عاد بمئات الملايين، عندمام ذهب إلى أخوانه العرب وخاطبهم من موقع الصمود. وكان صوت إرادة العودة على الأرض والبقاء فيها، الذي أطلقه أهل كفرشوبا وباقي قرى العرقوب، والجنوب عموماً، والذي جسمته الحركة الوطنية في لبنان بمختلف أحزابها وفصائلها وتنظيماتها، هو الأعلى في مجلس الدفاع العربي.
ومن جديد أكدت هذه الأمة المجيدة عظمتها: فهي ما دعيت إلى القتال مرة إلا ولبت النداء بلا شبهة تردد، وزرعت الميدان شهداء.. ولا طلب منها في يوم أن تعطي إلا وأعطت الأغلى والأنفس طلباً لنصر عزيز. وبالأمس ، خلت معاصم النساء وأعناقها وبناصر الرجال من الذهب والفضة، في جهد جماعي لتأكيد إرادة الصمود ورفض الهزيمة والاستعداد لقتال جديد.
وتكرست القاعدة حتى صارت قانوناً: قاتل وأطلب تعط كل شيء، اصمد واطلب فلا يرد لك طلب. أما مع سيادة منطق التخاذل، ومع الجنوح إلى التسويات الملغومة والمشبوهة، ومع اللجوء إلى “الضمانات الدولية”، وإلى الوسطاء السحرة من نوع “العزيز هنري”، فإن الآخرين يتركونك للمصير الذي اخترت.
… والفرق، كل الفرق، هو بين منطق المقاتلين أو المستعدين للقتال، ومنطق اللاجئين أو المستعدين للجوء.
ومهما كان سحر كيسنجر فإنه لن ينجح في إخراج العرب من الميدان بينما يقدم لبنان طلب انتساب إلى المعركة وميدانها، بعد أن غاب عنه أو غيب ثلاثين سنة طويلة طويلة.

Exit mobile version