طلال سلمان

على الطريق المفاوضات خارج التاريخ…

حتى المفاوضات مرشحة لأن تدخل عالم التمنيات،
وقد يتحول استئنافها، مجرد استئنافها، ذات يوم، إلى مطلب عربي كسيح آخر، ينتظم بعد شيء من الوقت في مسلسل مطالبهم الكسيحة الآخرى كتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة.
فالمفاوضات، الآن، مطلب عربي، وهي ليست كذلك للإسرائيلي،
وقد قبلها كل من الطرفين مرغماً، ولكن لسببين مختلفين تماماً: العربي كتعويض عن عجزه السياسي والعسكري والاقتصادي عن تبني الخيار الآخر، التحرير، والإسرائيلي تلبية لطلب أميركي ملح فرضته التحولات الدولية ونتائج حرب الخليج الثانية بما هي هزيمة ساحقة للعرب لا بد من التخفيف من انعكاساتها بجائزة ترضية ما.
كذلك فقد كان التوقيت مرتبطاً، إلى حد ما، بالمعركة الانتخابية الأميركية،
ولعل الرئيس الأميركي (السابق) جورج بوش قد افترض أنه حقق نصراً ساحقاً على العرب، يتجاوز قدرات الإسرائيلي ويحجمه وينتزع منه لقب “قاهر العرب مجتمعين”،
ولعله لهذا حاول استثمار هاتين الحقيقتين (الانهيار العربي الذي تنتفي معه الحاجة إلى الجبروت الإسرائيلي وشروطه المكلفة) في استقدام الطرفين إلى طاولة المفاوضات، بالشروط الإسرائيلية ولكن في ظل التسليم بالهيمنة الأميركية المطلقة على المنطقة وانضواء الطرف الإسرائيلي ضمن الخطة الأميركية.
الآن، وفي ضوء نتائج الانتخابات الأميركية يستطيع الإسرائيلي أن يعمل لتعديل الشروط، ولو إنها شروطه، حتى لو أدى الأمر إلى وقف المفاوضات التي أعطت ثمارها، بالنسبة إليه: فقد خرج الأردن، كاشفاً ظهر الوفد الفلسطيني ودافعاً إياه إلى مزيد من التنازلات التي لا بد ستجد داخل فلسطين وخارجها من يرفضها ويقاتل ضدها، مما يربك سوريا ولبنان ويظهرهما وكأنهما. طرف معزول داخل العرب فكيف في العالم الخارجي.
إن نتائج الجولة السابعة، بمرحلتيها، كاشفة لحقيقة الموقف الإسرائيلي “الجديد”، الذي صور وكأنه مختلف جذرياً عن الموقف القديم “للمتطرفين” بقيادة إسحق شامير،
وخلاصة هذه الجولة تدل بوضوح قاطع أن “المعتدل” إسحق رابين هو الأعظم تطرفاً، خصوصاً وإنه “يناضل” من داخل “الولاء لواشنطن” بينما كان سلفه يتصرف وكأنه منافس لزعامتها ولخططها في الهيمنة على المنطقة تحت شعار “القرار الإسرائيلي المستقل”.
ومع رحيل جورج بوش ومجيء بيل كلينتون اتسع هامش المناورة أمام رابين باتساع هامش التطابق في الأهداف مع الإدارة الجديدة التي أعطاها يهود الولايات المتحدة أكثر من 75 في المائة من أصواتهم.
إن شعارات كلينتون “أميركا أولاً” و”الالتفات إلى الداخل” وضرورة التوازن في الاهتمام بين الخارج والداخل، وضرورة التركيز على المعضلات الاقتصادية والاجتماعية في “المركز” ستتيح للإسرائيليين فرصة أوسع لأن يتولوا – بالوكالة عن الأميركيين المشغولين بمشكلاتهم – المسؤولية عن بعض “الأطراف”، كمنطقة الشرق الأوسط.
ولعل هذا ما يتوقعه أو يأمل في الحصول عليه الأتراك أيضاًز
إن الوضع العربي العام يتفسخ وتتوالى انهياراته الداخلية بأكثر مما قدر، أو ربما بأكثر مما يريد “السيد” الأيمركي.
ولعل مخاطر هذه الانهيارات، بتداعياتها المحتملة، تجدد التفويض الأميركي للوكيلين الإقليميين: الإسرائيلي والتركي، بتولي مهمة ضبط الأمور حتى لا تستولد حالات ثورية قد يطلقها التحالف الاضطراري بين الدين والفقر.
أي مفاوضات طرفها عربي يمكن أن تستقيم في ظل مثل هذا الواقع؟!
حتى المفاوضات تحتاج إلى قدر من القوة والتماسك والتضامن لكي لا تكون مجرد مقدمات شكلية لاستسلام مطلق لا يستطيع التورط فيه أي حكم يريد الاستمرار والسلامة.
لقد تزايد الخلل في ميزان القوى بين العرب (مجتمعين) وبين إسرائيل، وهذا الخلل سينعكس ضغطاً شديداً ومتعدد المصادر على الصامد من بين “الأطراف” العربية،
ولا يملك القائل بالصمود غير إطالة أمد المفاوضات إلى أبعد مدى ممكن، لعل الأوضاع تتبدل، أو لعل بعض عوامل التغيير والتحول تفعل فعلها في المجتمعات العربية أو في المجتمع الإسرائيلي ذاته،
كذلك فإن من مصلحة الطرف الإسرائيلي المنتعش الآن باستعادة التفاهم مع الحليف الأقوى، وبانتعاش آماله في العودة إلى موقع الوكيل فالشريك، أن يماطل ، وأن يسوف، وأن يفتعل الذرائع لإطالة أمد المفاوضات إلى ما لا نهاية، طالما أن لا خيار آخر أمام الطرف الآخر العربي من شأنه تبديل الأمر الواقع بالقوة.
وبين ذرائع إسحق رابين للتملص من أي تعهد بالانسحاب من الجولان أنه كان – شخصياً – باني أول مستعمرة في هذه الأرض السورية المحتلة، وإنه ألزم نفسه يومها بأن يحمي من دعاهم إلى الاستيطان فيها بوصفها بعض أرض إسرائيل التاريخية أو إضافة جغرافية إليها.
في أي حال ستكون هناك جولة ثامنة بعد أسبوعين من انتهاء السابعة، وسلفاً يمكن القول إنها لن تكون أسعد حالاً من سابقتها،
وستكون ثمة جولة تاسعة، على الأرجح، قبل حفل التسلم والتسليم بين بوش وكلينتون،
ثم جولات استكشافية لمدى التبدل في المناخ الأميركي الراعي للمفاوضات بعد تسلم الإدارة الجديدة مهامها،
ومع انهماك كلينتون وإدارته في معضلاته الأميركية ستتوارى المفاوضات العربية – الإسرائيلية متراجعة إلى آخر قائمة الاهتمامات،
ولعلها في غد لن تجد ما يبرر الاهتمام بها إخبارياً بحيث تتصدر الصفحات الأولى أو نشرات الأخبار الأساسية في مختلف أجهزة الأعلام العالمية،
بل إنها الآن لم تعد تعني غير أطرافها المباشرين، والعرب منهم بالدرجة الأولى، وفقط لأنهم لا يملكون خياراً آخر،
أما في غد فقد تغدو مفاوضات خارج التاريخ ووقائعه الجارية..
على أن النتائج السيئة للجولات السابقة ستكون قد فعلت فعلها في المنطقة العربية: فانفراد الأردن، والانهيارات في الموقع التفاوضي الفلسطيني، واشتداد الضغط على سوريا ولبنان، كل ذلك قد يؤدي إلى تفاقم مناخ الحرب الأهلية العربية وتسارع دينامية التفكك والانقسام ليس على المستوى القومي فحسب، بل أساساً على المستوى القطري.
ولن يبقى من المفاوضات إلا ما يخدم هذه الأغراض الإسرائيلية التي لا تتعارض بالضرورة مع مخطط الهيمنة الأميركية، خصوصاً إذا ما انشغل المركز بنفسه وأوكل الاهتمام ببعض أقاليم الإمبراطورية لوكلاء محليين على طريقة المقاطعجية في جبل لبنان في أواخر عهد السلطنة العثمانية التي أسقطت بهدوء شديد وبتوقيت مدروس قرره الورثة الأقوياء.

Exit mobile version