طلال سلمان

على الطريق المشهد الديموقراطي…

سيكون اليوم، الثلاثاء الواقع فيه العشرون من تشرين الأول (أكتوبر) 1992، مشهوداً، وبداية لمرحلة جديدة في تاريخ “الديموقراطية” في لبنان، برغم كل ما قيل وكل ما لحق بالعملية الانتخابية من “هنات هينات”.
إنه يوم تجدد الحياة النيابية وعودة الروح، ولو رمزياً، إلى المجتمع المدني والعمل السياسي في لبنان، بعيداً عن إرهاب السلاح والقمع الطائفي المباشر وخواء المؤسسات الديموقراطية.
أما الباقي فيتوقف على “حضرات النواب” الذين سيبدأ امتحانهم مع أول جلسة يعقدونها اليوم لاختيار الرئيس ونائبه وأعضاء هيئة المكتب. ولقد أنقذت كتلة “الإنقاذ والتغيير” اسمها والمجلس من شرور “التزكية” بإعلانها ترشيح أحد أعضائها، محمد يوسف بيضون، للرئاسة.
فقبيحة هي “التزكية” أصلاً، ودائماً ، فكيف إذا ما اعتمدت استهلالاً للعهد الجديد، وأين يكون المجلس من “الديموقراطية” إذا ما باشر أعماله بتعطيل مبدأ الاقتراع والمفاضلة بين المرشحين وتمكين “أعضائه” من التعبير عن آرائهم التي لا يمكن أن تكون واحدة أو متطابقة، بل هي بالضرورة متباينة ومتمايزة إلى حد التنافر والتناقض وربما الرفض المتبادل.
وحسناً فعلت “كتل” نواب الشمال بترشيح عمر كرامي رئيساً للحكومة متجاوزة واقعة إقدامه – شخصياً – على استباق السؤال بترشيح رفيق الحريري.
بعد هذا “سيتفرج” اللبنانيون، اليوم، على المشهد الديموقراطي، آملين ألا يبقى مجرد “صورة” على الشاشة الصغيرة، أو مجرد طقس فولكلوري يقتصر على استيفاء الشكل والمظاهر، ثم لا ينتقل بعد ذلك بتأثيراته وقدرته إلى الفعل في حياتهم العامة وفي واقعهم المعاش.
والمفارقة صارخة: فمبنى المجلس القديم – المجدد، كالحياة النيابية نفسها، يقوم على حدود الخراب، بل على حدود جراح الحرب الأهلية التي بقرت بطن العاصمة (والدولة)…
ولقد انشغل أهل المجلس، في السابق، بالمجلس عما حوله، أو فلنقل إنهم باشروا به، فجددوا مبناه وأعادوا تأثيثه ووسعوا حرمه وأضافوا إلى مبناه الأصلي بنايتين مجاورتين دفعوا فيها ثمناً باهظاً، بينما الدولة مفلسة تطوف على البنوك الدولية وصناديق النقد والتنمية الأميركية والإسلامية والعربية، بل وعلى رجال الخير والبر والمتصدقين والمحسنين تتسول ما يقول بأودها فلا تجد غير الصد.
كانت المدينة – الأميرة تضيق بأهلها (الأصليين) والوافدين والمهجرين من ضواحيها إلى قلبها، ومن الجبال المحيطة إلى الضواحي القديمة أو المستحدثة، و”النواب” مشغولون بأنفسهم عنها، كما عن مسقط رؤوسهم في المدن والقرى البعيدة… وكان من فيها ينظرون بحسرة إلى حركة الإنفاق فيجون أن المجلس يسخو على أعضائه ويبخل على المواطنين، وينقب في السجلات العتيقة عن ذرية بعض من أوصلتهم المصادفات إلى “البرلمان”، ليغدق عليهم إغداق المتكارم من كيس غيره، بينما هم الخبز اليومي يكاد يطحن الأكثرية الساحقة من اللبنانيين ولا مغيث.
والأخطر إن ما دُفع من مال للنواب احتسب رشوة ليمتنعوا عن القيام بمهمتهم الطبيعية في محاسبة الحكومة والحكم، حتى إذا شجر الخلاف بين الرؤساء تعطل دور المجلس نهائياً وتحول إلى “قهوة نشاط” يتجمد من يدخلها و”مدفن عمومي” لمشاريع القوانين، إلا تلك التي وراءها غرض أو نفع شخصي لبعض المحظوظين من نعمة “الديموقراطية المعقمة والعاقر” التي تسبح في مستنقع الخواء السياسي الشامل.
على حدود الخراب يقوم مبنى المجلس الذي سيتوافد عليه حشد النواب الجدد بمواكبهم المطهمة (!!) اليوم ليعلنوا “قيامة” الديموقراطية وإعادة الاعتبار إلى الرأي والرأي الآخر عبر تلك الصندوقة السحرية، ثم عبر النقاش المفتوح والمساءلة الشاملة لممارسات الحكم حاضراً ومستقبلاً، ومحاولة معالجة المعضلات الاقتصادية الخطيرة التي تكاد تذهب بالبلاد جميعاً بعدما ذهبت بنصف أهلها تقريباً، بين القتل بالمصادفة أو القتل على الهوية أو القتل بالغربة.
… وهو مجلس يقل فيه عدد “الكبار”، سيكون على الكتل أن تعوض غياب “الأقطاب” و”التاريخيين”، وهذه فرصة لقيام “المؤسسة” بديلاً عن التجمعات والتحالفات الظرفية أو الشخصية، كما إنها فرصة لحلول “النصوص”، من دراسات وأبحاث ومشاريع قوانين لتطوير الدولة والمجتمع، محل الخطب المرتجلة التي تسمع الناس قعقعة ثم لا يجدون طحيناً.
إنه مجلس كسفينة نوح، فيه من كل زوجين اثنان، اما من النساء فثلاث، إذ تجيء من الجنوب واحدة ومن الجبل ثانية (مزكاة) إضافة إلى السيدة الشمالية التي كانت تحاول فلا تمكن من النجاح دائماً في المجلس السابق،
إن فيه أحزاباً طالما حوربت فمنعت، أو قمعت حتى صار دخول الجنة أقرب إلى أحلام أعضائها من دخول حرم هذا المجلس، ويفترض بنوابها أن يثبتوا – الآن – كم إن تغييبهم عن الحياة النيابية كان عاملاً خاطئاً وكم كان فيه من إساءة إلى الديموقراطية، وربما كم أن ذلك التغييب كان بين عوامل تفجير الحرب الأهلية.
فكيف تكون ديموقراطية تلك المؤسسة البرلمانية التي تحجر على الأفكار والعقائد والأيديولوجيات فتصنفها “هدامة” أو “مستوردة” أو “مهددة لسلامة الكيان”، بل وتكاد أحياناً تجعلها جرائم تعادل الخيانة العظمى إذا ما هي جهرت بعروبة لبنان وبحق الإنسان في العدل والمساواة والكرامة؟!
لقد قام المجلس.
حسناً، إذا بدأت المحاسبة: محاسبة الذات، بداية، ثم محاسبة الآخرين.
ومع إن ثمة بعض الفراغ في هذا المجلس نتيجة لغياب الذين اختاروا مقاطعة العملية الديموقراطية كوسيلة للتعبير عن إيمانهم بالديموقراطية، فإن الحشد الذي ضاقت به القاعة حتى صار تصغير حجم المقاعد ضرورة، يفترض أن يكون حضوره الفاعل وأن يعوض غيابهم بإثبات حرصه على الوحدة الوطنية كشرط لبقاء النظام البرلماني الديموقراطي وبالتالي “الكيان الخالد” الذي تم تكريسه عشية الطائف، ثم عبره وفيه ، كـ “وطن نهائي”، ومع ذلك لم تهدأ المخاوف بل وزادت “الهواجس” فحاولت سد طريق البرلمان بالمسامير.
ومع تمني النجاح للمجلس الذي ولد بعملية قيصرية هذا الصيف، فإن “الناخب” وقد استعاد اعتباره لن ينام على حرير ولن يفوض قراره لأحد ولن يقبل بالتزكية سبيلاً لتوكيد إيمانه بالديموقراطية.

Exit mobile version