طلال سلمان

على الطريق “المركز” ومحاولاته الانقلابية..

… ولعله يمكن التاريخ لبداية انهيار “المركز” بإقامة “الحلف الثلاثي” العام 1968 وتحت شعار مواجهة “الصهيونية والناصرية والشهابية”.
تلاقى ثلاثة من القيادات المارونية في “المركز”، أي جبل لبنان، هم : كميل شمعون وريمون اده وبيار الجميل، وعملوا على استنفار “الطائفة الحاكمة”، مستفيدين من مناخ الهزيمة التي منيت بها الحركة القومية بقيادة جمال عبد الناصر في مواجهة العدو الإسرائيلي (5 حزيران 1967). ومفهوم إن كلمة “الصهيونية” قد رصفت مع “العدوين الأساسيين” للحلف الثلاثي من باب “التقية” أو التمويه… ومن سخريات القدر إن اثنين من أركان هذا الحلف لم يتأخرا كثيراً في لقاء أعتى رموز الصهيونية من القيادات الإسرائيلية ، فسبقا أنور السادات.
ولقد تمت اعتبار من 1976 “علاقة تحالف” سرعان ما أعطت ثمارها المسمومة مواكبة للاجتياح الإسرائيلي للبنان (وطرد المقاومة الفلسطينية منه) في العام 1982، فوصل بشير ثم أمين الجميل إلى رئاسة الجمهورية على متن ماسورة مدفع إسرائيلي.
كانت تلك الخطيئة الأصلية التي ارتكبها “المركز” فطفحت بها الكأس، خصوصاً وإنها جاءت تتويجاً لسلسلة طويلة من الممارسات الخاطئة والشاذة التي وضع فيها “المركز” بمن وما يمثل في مواجهة حالة النهوض القومي، ومعه الرغبة في التغيير أو أقله تطوير النظام وتوسيع دائرة “خيراته” بحيث تشمل أبناء الأطراف أو الملحقات، أو “الأقضية الأربعة” وفقاً لتسميتها السياسية المواكبة “للاستقلال”.
كان أهل “المركز” يأخذون النظام بعيداً عن الشعب الذي يحكمونه، والأهم: بعيداً عن حقائق الحياة ودلالات التحولات السياسية التي تهز المنطقة كلها. كانوا يتوغلون في الرهان الخاطئ متورطين في إظهار أنفسهم كخوارج على بيئتهم الطبيعية، معرضين مصير “الطائفة العظمى” برمتها للخطر، وجودها المادي ودورها المتميز عربياً وموقعها الممتاز على قمة السلطة في لبنان.
من “الحلف الثلاثي” إلى “الجبهة اللبنانية” إلى “القوات اللبنانية” فإلى “التيار العوني” تتوالى خطايا “المركز” عبر إصرار عجيب على إعادة التجربة المدمرة ذاتها وتكرار الرهان المؤكدة خسارته حتماً، وكان لا شيء تغير لا في لبنان ولا في المنطقة ولا في الكون كله.
كانت القيادات السياسية للطائفة المارونية، وهي بالقطع من “أهل المركز”، (والاستثناء شذوذ يؤكد القاعدة ولا ينفيها) تتوهم في نفسها من القوة أكثر مما تملك فعلاً، وتعول على “تحالفاتها الدولية” كما على الضعف العربي المستشري أكثر مما يجوز، وتنفخ حجمها على طريقة الضفدع متصورة إنها مركز الكون.
مع الفرنسيين حتى دالت دولتهم، ومع الفاتيكان حتى وهو يلتحق بالقيادة البروتستنيتة في واشنطن، ومع إسرائيل حتى وهي بعد في خانة العدو القومي للعرب عموماً، بمسيحييهم ومسلميهم: كان أهل “المركز” يرون في أنفسهم من الأهمية ما يكفي لإشعال حرب عالمية ثالثة. وكانوا، وهم المتلذذون بالزجل، نظماً وسماعاً، يتعاملون مع التحولات السياسية وكأنهم من صناعها، أو كأنها تتم من أجلهم وبدواعي مع التحولات السياسية وكأنهم من صناعها، أو كأنها تتم من أجلهم وبدواعي الحرص على “امتيازاتهم” التي صارت في نظرهم حقاً إلهياً ثابتاً، مع إنها في الأصل لم تعط لهم إلا لأخذهم بعيداً عن أهلهم وبيئتهم وربطهم بالعواصم البعيدة.
إن لبنان القديم، لبنان الإمارة، ثم لبنان المتصرفية، ثم لبنان الكبير ثم جمهورية لبنان موديل 1943، قد انتهى إلى غير رجعة.
إن لبنان ما بعد الحرب الأهلية مختلف تماماً عما قبله.
ولكم كان السفير الفرنسي في بيروت صادقاً حين قال في خطابه لمناسبة عيد فرنسا الوطني (في 14 تموز الماضي) للجمهور المحتشد في باحة قصر الصنوبر (المتهدم) وفيه معظم “المسؤولين” ما مفاده: إن صورة عن الوثيقة التي أعلن بموجبها الجنرال غورو قيام دولة لبنان الكبير في العام 1920 محفوظة الآن في مكتبه، استذكاراً للماضي وأيامه المجيدة.
لقد بات “لبنان الكبير” الذي أقيم من حول “المركز”، تحصيناً له وتوسيعاً لمداه الجغرافي، وتعزيزاً لإمكاناته (بشراً وأرضاً ومصادر مياه) لم يعد ما كانه قبل سبعين سنة أو يزيد.
تبدلت الأقلية كثرة والأكثرية قلة، وعرف “المتخلفون” طريق التقدم. دخل أبناء الفقراء الجامعات وتفوقوا، سافر أبناء الأطراف إلى المغتربات فاغتنوا وفتحوا الباب المرصود لدنيا المال والأعمال، انكشفت أسرار الهيكل للعامة. ووصل العديد من فقراء العرب وفلاحيهم إلى السلطة وأمسكوا بزمامها مسقطين الملوك والباشوات. قامت إسرائيل مقدمة نمطاً جديداً من الحكام وعلاقات التحالف والعداء السياسي الخ.
والأهم، على الصعيد اللبناني، إن أبناء الأطراف قد اقتحموا “المركز” فحاصروه وغلبوه. فلما جاءت الحرب الأهلية، والتي يتحمل تبعتها “المركز” بقياداته الجبلية إياها، كانت تلك إشارة الهجوم الأخير لأبناء الأطراف على “المركز” وامتيازات أهله. ولعل من أكبر خطايا “المركز” اقترانه جريمة تدمير بيروت: القلب والرباط المقدس بين اللبنانيين. وما تزال ترن في آذان اللبنانين عموماً، “البيارتة” منهم وأبناء الأطراف تلك الجملة الخالدة التي قالها ميشال عون وهو يتوعدهم: “لقد هدمت بيروت من قبل سبع مرات، ولا بأس من أن تهدم مرة ثامنة ومرة تاسعة”. كانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير. فأين المركز لم يعد يهتم حتى ببيروت (مركز دولته القديمة) فكيف بالأطراف وأهلها.
الانتخابات مجرد ذريعة سياسية.
لكن “المركز” يتخذها سبباً للانفصال، أو بالأحرى لمعاودة محاولة الانفصال.
وهو بهذا يحول الانتخابات من مسألة سياسية لن تقدم ولن تؤخر كثيراً لا في طبيعة النظام ولا في طبيعة العلاقات داخله، إلى “قضية” من طبيعة وطنية، لها جمهور عريض يناصرها بوصفها عامل توطيد للحل السياسي ولعصر السلام الآتي، ولها معارضة تستهدف من خلفها قلب النظام وإسقاط جمهورية الطائف.
وليس في الظروف القائمة ما يوحي بأن محاولات الانقلاب التي بدأت في العام 1968 ولم تلاق نجاحاً يذكر سيقدر لها أن تنجح في العام 1992… خصوصاً وقد انقلب الكون كله، بما في ذلك مواقع الانقلابيين الجدد.

Exit mobile version