طلال سلمان

على الطريق المتراجعون

“التوضيحات” الأميركية للبيان السوفياتي – الاميركي المشترك حول “أزمة الشرق الأوسط” لم تفاجئ أحداً، فهذا الأسلوب الكارتري في التعامل مع القضايا الساخنة بات أشبه بالماركة المسجلة: يطلق تصريحاً من النوع المدروس والمتضمن لكلمات وتعابير “محظورة” أو “مهجورة” في المنطق الأميركي الرسمي، حتى إذا جاءته ردود الفعل أعاد صياغة تصريحه بما يتناسب مع طبيعة ردود الفعل هذه… وهكذا تراه يستهلك مواقف الأطراف المعنية عبر مجموعة من التراجعات التكتيكية التي تتعامل مع الألفاظ بغير أن تمس جوهر الموقف الأميركي المعتمد.
على أن هذا الأسلوب يغير ويحور في طبيعة “المشكلة” المطروحة، إذ هو ينقل الاهتمام تدريجياً من جوهرها إلى تفاصيلها، ساحباً معه الأطراف المعنية إلى الموقع الذي اختاره وحدده كمنطلق للمعالجة.
وبمراجعة فورية نراه قد تراجع وسحب معه الآخرين من ساحة “الوطن الفلسطيني” إلى “الكيان” إلى “الكيان المرتبط بالأردن” إلى “التقسيم الوظيفي للضفة الغربية بين الأردن وإسرائيل”… وفي موضوع تمثيل الفلسطينيين في جنيف نراه انتقل ونقل معه الآخرين من “منظمة التحرير” بوصفها الممثل الشرعي الوحيد، إلى المنظمة باعتبارها عنصراً جوهرياً في تمثيل الفلسطينيين، إلى تفصيل التعامل مع الصف الثاني من قيادة المنظمة، إلى ممثلي “الشعب الفلسطيني” بصيغة مبهمة وقابلة لأي تفسير.
وها هو الآن يتولى شخصياً ثم عبر ناطقين أحدهما باسم البيت الأبيض والثاني باسم وزارة الخارجية، “توضيع” فهمه لما ورد في البيان السوفياتي – الأميركي بالنسبة للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، فينتقل بها من “حقوق وطنية” إلى “حقوق” مبهمة توازي تماماً تعبير “المصالح” وهو التعبير الذي تعتمده – باستمرار – اللغة الأميركية حيال الفلسطينيين.
يسقط “الوطن” أولاً، ثم المؤسسة التنظيمية المجسدة للشعب والوطن، ثم يسقط الشعب نفسه، فإذا الأمر تعويضات عن الممتلكات والعقارات والبيارات وربما أيضاً عن الذكريات الحميمة.
أما إسرائيل فلها التأكيدات اليومية المتوالية، رسمياً، عن ضمان كيانها وأمنها وتفوقها وسيادتها حتى على المناطق التي احتلتها في حرب 1967.
هذا إضافة إلى الضمانات الفعلية ممثلة بمليارات الدولارات التي تتهاطل عليها كل سنة، وبتحويلها إلى أكبر مستودع سلاح في العالم كله (إذا اعتمدنا المقياس النسبي)، مع التذكير بأن السلاح هو الأكثر تطوراً والأقوى فعالية بين كل ما هو متداول الآن.
القسمة ضيزي: حقوق الفلسطينيين متوجبة على إخوانهم العرب، وحقوق إسرائيل مضمونة بقوة الولايات المتحدة الأميركية وسيادة نفوذها في المنطقة. فإلغاء “الوطن” الفلسطيني يلغي “المواطن” الفلسطيني، ولا يبقى من “القضية” غير “اللاجئ” وحقه بالتعويض المادي عما فقده، والعرب أغنياء بمساحات أقطارهم وبمواردهم النفطية بما يكفي للتعويض على إخوانهم الفلسطينيين واستضافتهم.
أما إسرائيل فتبقى ويدعم بقاؤها. تحتل فتمكن من الاحتفاظ بما احتلته من أراضي الدول العربية الأخرى، إضافة إلى أرض فلسطين، وتعزز قدراتها العسكرية بحيث تبقى صاحبة كلمة أساسية في كل ما يتعلق بالمنطقة ومستقبلها، وتصبح شريكة أساسية في القرارات الداخلية لأي قطر عربي،
وفي الحالين يبقى الطرف العربي هو – وحده – المطالب بدفع الثمن، في حين تخرج إسرائيل رابحة، وتتوكد السيادة الأميركية على المنطقة العربية،
والمشوار، بعد، طويل.

Exit mobile version