طلال سلمان

على الطريق المبعدون: القضية لا الصليب الأحمر!

… وأخيراً “اكتشفت” إسرائيل أن لبنان موجود، على الخريطة السياسية الدولية، وأنه ليس “وكالة من غير بواب” ولا هو أيضاً “حديقتها الخلفية”.
ولقد تم هذا “الاكتشاف” الخطير في اللحظة عينها التي “اكتشفت” فيها إسرائيل أن فلسطين أكثر حياة وأعظم قوة من أن تستطيع أن تلغيها، وتشطب شعبها من سجل أبناء الحياة.
فالاحتلال، مهما طال أمده واستطال ظله الأسود وتطاول ظلمه، لا يلغي الشعب ولا يبدل تراب الأرض الذي يعطي الناس ملامحهم وحقهم في الانتساب إليه،
لبنان المحتل يظل لبنانياً، كما فلسطين المحتلة تبقى فلسطينية.
والمحتل الإسرائيلي يبقى محتلاً في لبنان كما هو في فلسطين،
كذلك “اكتشفت ” إسرائيل أن المبعدين الفلسطينيين سرعان ما تحولوا من مشكلة أمنية، كما حاولت أن تصورهم، إلى قضية سياسية من الدرجة الأولى كما فرضت نفسها على العالم كله.
ولقد حاول الإسرائيليون ومعهم أصدقاؤهم “الكبار” في العالم أن يلغوا البعد السياسي لقضية المبعدين وأن يتجاوزوا القرار – الجريمة بالأبعاد إلى الوضع المعيشي لهؤلاء المجاهدين الذين رمتهم إسرائيل في الصقيع والوعر واللامكان، وخارج الزمان،
حاولوا بعدما اضطروا إلى الاعتراف بوجودهم أن يغلبوا الجانب الإنساني على البعد السياسي، وجربوا توظيف مسائل حياتهم اليومية كالطعام والشراب والدواء والنوم للضغط على لبنان سياسياً بحيث يضطر إلى حل المشكلة السياسية التي هي إسرائيلية في منشآها وفي مسارها وفي النتائج المترتبة عليها.
والقاعدة التي فرضتها إسرائيل على العالم، ودائماً برعاية قوى الهيمنة الأميركية (والغربية عموماً)، هي إلغاء البعد السياسي لكل من وما هو فلسطيني، وحصر التعاطي مع الفلسطيني في الجانب الإنساني، هذا إن كان لا بد من التعاطي معه أصلاً.
وهي قاعدة معكوسة تماماً مع الإسرائيلي،
إذا جرح حجر الفتى الفلسطيني جندياً محتلاً إسرائيلياً فهذه قضية سياسية من الدرجة الأولى تبرر لإسرائيل أن تشن حرباً على عموم الفلسطينيين، بل وعلى جميع العرب!
أما إذا اعتقل المحتل الإسرائيلي شعب فلسطين بكامله فإن اهتمام العالم ينصب على تأمين “الظروف الإنسانية” لهؤلاء المعتقلين، وكأنه قد سلم بأنهم مجرمون ومعتدون وخارجون على العدالة، وبقي عليه – لتبرئة ضميره – إن يطمئن إلى أنهم يأكلون ثلاث وجبات في اليوم وينامون في غرف لها أبواب وفيها مصابيح كهربائية وثمة حماماة ودورات مياه ملحقة.
وفي موضوع المبعدين انزلق “الضمير العالمي” إلى الفخ الإسرائيلي كالعادة، فاشتد الضغط على لبنان سياسياً في البداية، ثم شهر في وجهه السلاح البتار: الوضع الإنساني لهؤلاء الأشقياء الذين تركوا للريح والثلج في وعر الأرض المسكونة بالخوف والموت الإسرائيلي،
وللحظة بدا وكأن لبنان هو الذي أبعد الأربعماية وخمسة عشر فلسطينياً، وتصرفت بعض الدول الكبرى مع لبنان وكأنه هو المسؤول عن أعمالهم قبل الأبعاد ثم عن حياتهم بعد،
فليس للعربي عموماً وللفلسطيني خصوصاً قضية سياسية،
لإسرائيل وحدها الحق بأن تكون لها قضية، وبأن تكون قضيتها هي العليا، وبأن يتجند العالم لنصرتها بغير نقاش حول طبيعتها وهل هي محقة أم ظالمة؟!
أقصى ما يمكن أن يعطيه الضمير العالمي للفلسطيني بطانية وخيمة وبعض المعلبات وبعض المسكنات وأدوية للسعال والإسهال والزحار والمغص الكلوي!
… ويعطيه قراراً من مجلس الأمن الدولي ينفع ورقاً للصر، كي يلف به الأدوية والمسكنات، أو كي يشعله فيتدفأ على حرارة احتراقه بعدما تكون إسرائيل قد عطلته وافرغته من مضمونه وقتلته في لحظة صدوره.
المبعدون قضية سياسية إذن،
محرجاً ومحنقاً، اضطر إسحق رابين إلى الاعتراف بالطبيعة السياسية لمسألتهم، كما اضطر إلى الاعتراف بهويتهم، واستطراداً بدولة تدعى لبنان قد يمكنه سلاحه الأميركي من احتلالها لكنه لا يستطيع إلغاءها،
وهكذا نادى العالم ليساعده على نفي الطبيعة السياسية عن المبعدين بدعوة “أصدقائه” إلى استضافة هؤلاء، في دولة ثالثة، حتى لا يظلوا في دائرة الضوء: شاهداً على جريمته ونهجه القمعي الذي جعل الغربيين يترحمون على سلفه إسحق شامير.
لكن الطبيعة السياسية للقضية ستتأكد كل لحظة، خصوصاً مع إفشال محاولات الفتنة التي حاول رابين زرعها بين الفلسطينيين أنفسهم، بل وبين المبعدين أنفسهم، ثم بينهم وبين اللبنانيين.
إن فلسطين تعرف طريقها إلى ذاتها، وها هي على طريق العودة،
وبين زمريا وغزة لا شيء غير الاحتلال،
وهي قد قاتلته هناك، كما قاتله ويقاتله اللبنانيون هنا،
ولن يتوقف القتال طالما استمر الاحتلال،
وليبتلع رابين كل المهدئات والمسكنات، مضافة إليها الكميات التي وردت إلى المبعدين باسم الشعور الإنساني لطمس قضيتهم السياسية،
فالسيف هو المطلوب لا الأسبرو
والعدالة هي المطلوبة لا الصليب الأحمر.
ولا إنسانية حيث يطمس حق شعب في أرضه وفي أن يبقى فوقها وأن يقرر مصيره فيها وبها ومعها،
وفلسطين لا تحتاج إلى مزيد من البطانيات بل إلى اسمها وأهلها، وإلى أن تتوقف عملية اقتلاع شعبها منها ليغدو مجموعات من اللاجئين ولتغدو أرضاَ مفرغة لتعطى – من بعد – للذين خانوا أرضهم وجاءوا إليها وكأنها بل أهل.
وفلسطين هي القضية وهي الراية وهي الهدف، بداية وانتهاء.

Exit mobile version