طلال سلمان

على الطريق القمة المحكومة بالنجاح

أطول عشر سنوات في التاريخ العربي الحديث هي تلك التي تفصل بين قمة الخرطوم، في أعقاب “نكسة” 1967، وقمة الصمود والتصدي العربية التي ستنعقد خلال هذا الأسبوع في طرابلس، رداً على “هزيمة” 1977.
ولعل التمييز بين “النكسة” و”الهزيمة” كان متعذراً قبل أن نشهد هذا الذي شهدناه منذ “انتصار أكتوبر” وحتى خطبة الكنيست ثم الدعوة إلى “مؤتمر القاهرة للسلام”!!… وفي ضوء النتائج فإن القيادة السياسية المسؤولة عن “النكسة” العسكرية هي التي وفرت الشروط الضرورية لإحراز “النصر” العسكري، بينما الإدارة السياسية لمعطيات هذا “النصر” هي المسؤولة، أولاً، عن تحجيمه ثم عن إهداره بالكامل، وبالتالي عن تحويله إلى “هزيمة” ساحقة يراد الآن فرضها قدراً على هذه الأمة.
من هنا فإن المهام المطروحة على قمة طرابلس هي أصعب وأدق – بما لا يقاس – من تلك التي طرحت نفسها على قمة الخرطوم، والتي أمكن مواجهتها – آنذاك – باللاءات الشهيرة وببعض الدعم المادي لدول المواجهة الفقيرة جداً من دول المساندة “البعيدة” جداً والغنية جداً.
ولقد نجحت قمة الخرطوم، برغم كل شيء لأسباب موضوعية محددة أهمها:
*أولاً – شخصية القائد التاريخي المجسد لطموحات الأمة وقدراتها. وبالتأكيد فإن الاستقبال الأسطوري الذي خص به شعب السودان العربي جمال عبد الناصر عند وصوله جريحاً مهيض الجناح، فرض مناخ “المواجهة” ورفض الهزيمة على جميع المشاركين في القمة من ملوك ومشايخ وأمراء ورؤساء، وأكثريتهم خصوم لما يرمز إليه جمال عبد الناصر ولما كان ينادي به شعب السودان باسم كل العرب.
*ثانياً – كانت الامة، وفي ظل قيادتها التاريخية الفذة، تعيش حالة نهوض سياسي. وكانت حركة الثورة العربية في مد تكاد لا تصمد أمامه أية قوة معادية. وبهذا المعنى فإن استقبال عبد الناصر في الخرطوم كان تجسيداً لحالة النهوض تلك التي عبرت عن نفسها بالانتفاضة الشعبية العارمة التي ردت بها الأمة العربية على النكسة العسكرية، مؤكدة إرادة الصمود والتصدي منذ اللحظة الأولى في القاهرة (9 و10 حزيران) كما في بيروت ودمشق وبغداد والجزائر وسائر العواصم المتناثرة بين المحيط والخليج.
*ثالثاً – كانت الأمة، وفي ظل قيادتها التاريخية الفذة، مركز استقطاب دولي، لها أعداؤها الكبار لكن لها أيضاً حلفاؤها الكبار، ولها دور ريادي وقيادي في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية… ومن ثم فقد كانت تحظى باحترام عظيم من الأطراف جميعاً، ومن القوى جميعاً، وكان لها إسهامها المؤثر في صياغة سياسة العالم في كل مجال وفي أي مجال وعلى مختلف المستويات.
هذا عن قمة الخرطوم، فماذا عن قمة طرابلس؟
إن الظروف مختلفة جداً، وعلينا أن نعترف وبشجاعة أن الأمة ليست في أحسن حالاتها، بل لعلها تعيش أبأس أيامها على امتداد تاريخها الطويل.
لقد ذهب “القائد”، وضربت حالة النهوض الشعبي ومزقت حركة الثورة العربية وشرذمت وحملت – من بعد – مسؤوليات كل ما جرى في هذه المنطقة بدءاً بالاجتياح العثماني، مروراً بعصور القهر الاستعماري بكل ما فرضته علينا من تخلف وفقر وشقاء وجهل، وانتهاء بمآثر العصر الأميركي – الإسرائيلي وآخرها زيارة السادات للقدس المحتلة ثم دعوته إلى مؤتمر الاستسلام في القاهرة.
ومع الاعتراف بأن حركة الثورة العربية لم تكن دائماً في مستوى المهمات التاريخية التي واجهتها.
ومع التسليم بأن هذه الحركة عانت ولا تزال تعاني من اضطرابات فكرية ومن قصور تنظيمي مريع، ومن شيء من التسرع والارتجال في قراراتها بينما هي تواجه أرقى أشكال الإمبريالية في التاريخ،
مع هذا وذاك فإن لا بديل وطنياً وقومياً لهذه الحركة،
ومع هذا وذاك فلا يجوز أن يكون السقوط في هوة اليأس هو الرد، فاليأس هو الوجه الثاني للاستسلام، وهو الطريق الوحيد الاتجاه: إلى الهزيمة!
على أن قمة طرابلس والمؤتمر الشعبي العربي فيها سيكونان مطالبين بمواجهة للذات، أولاً، تبدأ بالسؤال: أين أخطأنا حتى أمكن لنهج الاستسلام أن يحرز كل هذا النجاح، وأن تتكون له المقومات والركائز وتلتف حوله قوى فعلية بحيث بات يجرؤ على المجاهرة بطروحاته الانهزامية علناً وعبر غلالة من الرضى “الشعبي” المصطنع؟!
ثم يفرض السؤال الثاني نفسه: كيف السبيل إلى استنهاض هذه الجماهير، التي يعترف الجميع بأنها مسحوقة، وممنوعة من الحركة، ومعزولة، عن مجرى الأحداث، ومقهورة حتى العظم، ثم يستغربون أو يستهجنون “سكونها” أو يبررون قعودهم عن القتال بواقعها المفجع… وكأنما هذا الواقع جاءها من الفراغ، أو من أبالسة وجن وعفاريت هبطت من كوكب آخر؟!!
بعد هذين السؤالين الأساسيين، لا قبلهما، يمكن مناقشة جدول الأعمال وإقرار الخطوات العملية للتصدي والصمود في وجه الهزيمة والمروجين لها والعاملين لفرضها قدراً على هذه الأمة.
إن الجماهير العربية لا تريد عن قمة طرابلس “لااءات” جديدة،
وهي لا تريد منها رداً على إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأميركية،
إنها تريد أجوبة عملية على أسئلة كثيرة جداً ومحددة جداً تبدأ جميعها بـ “كيف” و”متى” و”أين” و”من” و”بمن”، ولاسيما “بمن”.
إن “اللاءات” محفورة في الوجدان القومي من قبل قمة الخرطوم، بل ومن قبل إقامة إسرائيل فوق أرض فلسطين، ولكن الأجوبة الأخرى هي المفتقدة حتى الآن.
وللتبسيط يمكن أن يقال: إنها مرحلة جديدة، وإنه عصر جديد، ولا بد من أسلحة، جديدة وأنماط ومناهج جديدة في العمل السياسي (الثوري) العربي للمواجهة.
لقد حدث تبدل نوعي في طبيعة الظروف التي تحيط بالصراع العربي – الإسرائيلي،
وحدث تبدل نوعي في طبيعة العلاقات بين العرب أنفسهم،
وحدث تبدلات نوعية في طبيعة علاقات العرب بالعالم،
ولا بد – إذن – من تبدل نوعي في أساليب المواجهة والصمود والتصدي، ناهيك بالتصنيفات وأنماط التحالفات القائمة.
لقد غيبت الجماهير – بالقهر أو بالخديعة – عن الساحة. ولا بد من عودتها حيث يمكن أن تعود لممارسة دورها الرائد والقائد كشرط لتوكيد جدية التوجه نحو الصمود والتصدي فالجماهير المنظمة والمسلحة بالوعي والحرية هي وحدها القادرة على إحراز الانتصار في معارك تاريخية فاصلة كالتي يفرضها علينا الآن التحالف الأميركي – الإسرائيلي مع الانهزاميين من العرب.
إن قمة طرابلس حدث كبير، وهي تنجح فتكون، أو لا تكون على الاطلاق ويكون شيء آخر أوله “مؤتمر القاهرة” وآخره الإمبراطورية الإسرائيلية فوق كل الأرض العربية.
إنها قمة محكومة بالنجاح،
ولعل انعقادها في طرابلس بالذات مما يساعد على تحقيق هذا الهدف القومي، فمن تلك الأرض العربية انبثقت شعلة شقت ليل الهزيمة، قبل ثماني سنوات، وأعطت حركة الثورة العربية زخماً جديداً “بالفاتح”،
… وكانت كلمة السر – يومئذ أيضاً – القدس.

Exit mobile version