طلال سلمان

على الطريق القضية أكبر…

ليس أقسى ما في “عملية الطائرة البريطانية” حجم الخطأ السياسي فيها، إن لناحية التوقيت أو لناحية الطرف المستهدف بها،
الأقسى والأمر هو أن منفذيها من المقاتلين الشبان ضاعوا عن قضيتهم ذاتها، فكلامهم وطريقتهم في التصرف تظهرهم وكأنهم يتحدثون عن شيء آخر غير فلسطين.
ذلك إن فلسطين الآن، في عيون العالم كله، وليس فقط في عيوب العرب وأبنائها، أكبر بكثير من صورتها في عيون المقاتلين الشبان المسجونين مع أوهامهم داخل طائرة الموت البريطانية في تونس.
انصافاً نسارع إلى القول إن فلسطين عرفت، في تاريخ نضالها الطويل، نماذج كثيرة وشهيرة لأمثال هؤلاء المقاتلين البائسين بقصورهم السياسي. فثمة العديد من قادة العمل الوطني الفلسطيني، ومن المناضلين الصادقين في سبيل حرية فلسطين وعروبتها وحقوق شعبها، عاشوا وماتوا أو سقطوا على الدرب دون أن يستطيعوا الارتفاع إلى المستوى العالي لقضيتهم.
ففلسطين كانت على الدوام “البطل الأكبر”، وظلت “القضية” فيها أعظم من “المناضل” و”الفدائي” ، ناهيك بالحكام وأشباههم.
أكثر من هذا: إن زخم القضية في فلسطين قد أعطى حركة المقاومة من شروط السلامة والصحة والعافية ما انتصرت به على عيوب النشأة ومخاطر الأورام الثورية بعد ذلكز
ولأن القضية على هذا المستوى الرفيع، وبهذه القداسة، ولها هذا السحر على الناس، صارت محاكمة المتعاطين بها والعاملين لها أقسى وأصرم، واكتسبت المعايير والمقاييس الخاصة بالأنشطة الفلسطينية المختلفة دقة لم تكن لها في أي يوم. فالأعداء معروفون، والأصدقاء محدودون، والمترددون يغادرون مواقع الحيرة تدريجياً لينضموا إلى موكب القضية المظفرة بقوة الحق فيها.
من ذلك إن المواطن العربي، في أي أرض كانت، يحدد مواقفه من سائر الحكام العرب بمقاييس فلسطينية،
ومن ذلك إنهم في الأقطار الإسلامية يحكمون على صدق إيمان الحكم بمعيار ولائه لفلسطين،
وإنهم في أوروبا وأميركا يمتحنون تقدمية الحزب أو الرجل أو الحكم بمدى تفهمه لقضية فلسطين وتعاطفه مع حقوق شعبها المشروعة،
ومن ذلك إن الحكم على أي تصرف فلسطيني يصدر بشبه إجماع، سواء أكان الحكم بصواب التصرف أم بخطله.
إن قضية فلسطين كبرت أكثر مما يتصور حتى بعض المؤمنين بها والمقاتلين من أجلها، واكتسبت شفافية نادرة بحيث بات الخطأ تجاهها مفوضحاً من اللحظة الأولى.
ومأساة الشبان الذين في تونس الآن إنهم تركوا العالم الفسيح الذي تشغله وتملأه قضية فلسطين، التي تحتاج بعد قوافل من المقاتلين والمناضلين، وسجنوا أنفسهم داخل وهم صغير اتسعت له طائرة بريطانية عتيقة في مطار تونس.
ولا نهاية لمأساة الشبان، وأمثالهم، إلا بالخروج إلى العالم الفسيح، بل اللامحدود، الذي تحتله الآن قضيتهم.
ومن له حقيقة عظيمة كفلسطين وقضيتها ما حاجته إلى الأوهام وإنصاف الحقائق؟!
ومن له قضية بقوة فلسطين، تجبر العالم كله على تحديد موقف صريح وواضح ومحدد منها، ما حاجته إلى رهينة مدنية يرهبها بمسدس؟
ففلسطين أقوى من مجموع المدافع والطائرات والصواريخ التي اشتركت في حروبها الأربع، ومع الأسف فإن هذه المسدسات في الطائرة البريطانية ليست إضافة لها.

Exit mobile version