طلال سلمان

على الطريق القتل الدبلوماسي… والحوار الطائفي!

ليست البطالة الدبلوماسية شهادة براءة أو صك غفران،
فالقتل هو القتل، وأبشع منه تبريره، كما في حالة الشيخ طالب السهيل التميمي، ولا يخفف من فظاعة الجريمة أن يدور ويحتدم النقاش الفقهي حول الحصانة الدبلوماسية والأصول في التصرف إزاء جرائم الدبلوماسيين.
وإنه لما يُحزن اللبنانيين أن يكون النظام العراقي مصراً، بعد كل الكوارث التي جرتها سياسة قمع الداخل والخضوع لإذلال الخارج، على مطاردة المعارضين بكواتم الصوت والحقائق الدبلوماسية الناسفة، بينما يسمح للجان التفتيش والمراقبة أن تقتحم القصر الجمهوري وأن تحاصر وزارة الدفاع وأن تمتهن كرامة الجيش العراقي كل لحظة، وأن تشكل لجنة وصاية على الطاغية فتقرر له مصروفه وحركته براً وبحراً وجواً.
… وإنه لحزب على العراق والعراقيين بقدر ما هو على لبنان واللبنانيين (وسائر العرب)..
أبعد كل القمع والقهر والعسف والإذلال والتجويع والتيتيم والقتل الجماعي للعراقيين والتمزيق في الداخل تشكل فرق الموت لتطارد من تحملوا هوان الغربة والعوز والحاجة، في الخارج: هل حُكم على هذا الشعب العظيم بالإعدام الجماعي؟!
من العبث معاتبة صدام حسين على ما يفعله، مجدداً، بلبنان، فلن يكون أرحم عليه وعلى اللبنانيين منه على العراق والعراقيين،
لكن المفجع أن ليس ثمة مرجع يمكن أن ترفع إليه الشكوى أو الظلامة لكي تردع الظالم ولو بالإدانة المعنوية، ولعل هذا بين ما يشجعه على المضي في غيه.
لذا تتضاعف مسؤولية الدولة في لبنان في أن تحمي سلامة الناس فيها مباشرة وبإمكاناتها الذاتية.
على أن ذلك لا يجوز أن يتحوّل إلى ذريعة لكي نضيق ذرعاً باللاجئ السياسي أو بالهارب من بطش حاكمه، أو باللائذ بنا من أجل أن يحمي عائلته والأهم: حلم التغييروالحق في وطن.
من الطائفية إلى الأمن: لا سياسة ولا دولة!
يشكو اللبنانيون، على اختلال اتجاهاتهم السياسية، من الخواء السياسي، ويعتبرون أن البلاد في إجازة من العمل السياسي، وأن البطالة السياسية شاملة وهي التي تستولد مجموعة من الأزمات الفرعية.
في تقدير اللبنانيين أن الحكم هو المسؤول عن هذه البطالة.
لكن الحكم يشكو بدور من الخواء السياسي متغافلاً عن مسؤوليته المباشرة، ويكاد يفترض أن “البطالة السياسية” أمر قدري، أو أنها بعض الظواهر المترافقة مع النظام العالمي الجديد أو الناجمة عن تطبيقاته التمهيدية، لاسيما على الصعيد الاقتصادي.
الطريف أن العديد من الوزراء يتذمرون من أنهم لا يجدون ما يملأ وقتهم، وأنهم لهذا ينصرفون إلى شؤونهم الخاصة.
في الوقت ذاته تصر الحكومة، التي ألغت نفسها كمؤسسة سياسية، على إلغاء “الشارع”، فتمنع التظاهرات والتجمعات والمسيرات وحتى الاجتماعات في أماكن مغلقة.
ثم تمضي قدماً في العبث بكافة أشكال التنظيم النقابي والمهني والشعبي، خصوصاً بعدما اطمأنت إلى أن “الأحزاب” التاريخية قد استحالت إلى مجرد ذكريات من الماضي، ذهب الزمان بزخمها وجماهيرها ومبرر وجودها فلم يتبق منها إلا الاسم وبعض الشعارات واللافتة التي ذهب لونها، وبعض وكلاء التفليسة الذين أدخلوا الحكم عملاً بقاعدة “إرحموا عزيز قوم ذل”، أو ربما للإيهام بأن الحكومة جبهة وطنية عريضة ومنتدى للحوار حول الشؤون المصيرية بما ينعش الحياة السياسية في البلاد.
وهكذا لا يبقى في الميدان إلا… رجال الدين.
وليس من المبالغة أن يقال الآن إن “الأحزاب” السياسية الفعلية القائمة هي تلك “الجماهير” الملتفة حول البطريرك الماروني أو حول هذا الشيخ أو ذاك منم المرجعيات الروحية الإسلامية، أو هذا الأباتي أو ذاك المطران من “القيادات” الروحية المسيحية.
لذا يبدو أحياناً وكأن الحوار “السياسي” الوحيد المتبقي هو “حوار الطرشان” القائم بين هذه المرجعيات الروحية وبين الحكم، وتحديداً الحكومة.
لكأنما حلت هذه المرجعيات محل الأحزاب والتنظيمات الشعبية والاتحادات المهنية والنقابات، بتشجيع من الدولة وبمباركتها، حتى لو اتسم حديث الحكم عن المرجعيات بشيء من الحدة يتضمن العتب والملام، كما يتضمن الاعتراف بمشروعية دورها الجديد: كند للحكم، أو أقله كمحاور للحاكم.
هل أخطر من مثل هذا الوضع الذي يفرض على الحكم تدريجياً قدراً من التبديل في خطابه السياسي وفي مفرداته بل وفي قراراته بحيث يغدو يوماً بعد يوم أكثر طائفية وأقل علمانية؟! أقل قدرة على مقاومة المنطق الطائفي وأكثر توغلاً فيه ولو من باب الدفاع عن النفس وحماية الموقع و”شرعية” الدور؟!
إن الرئيس أو الوزير أو النائب يفقد مع سيادة هذا المنطق، وكل يوم، المزيد من مشروعيته ومن طبيعته كركز وكمجسد لإرادة شعبية عامة (أي سياسته) وليس كممثل لطائفة بالذات وأحياناً لطائفة في منطقة أو مدينة بالذات.
وهكذا ينتقل الصراع من أرض السياسة إلى أرض الطائفة / الطوائف وتدفع الدولة الثمن من رصيدها المتهالك أصلاً، وتشجب صورة الحكم: فلا هو أتى كممثل حصري للطوائف ولا رجاله مؤهلون لمواجهة مرجعيات طوائفهم بالمنطق البحت طائفي.
إن الدولة تهزل والحكم يكاد يندثر.
والمبالغة في اللجوء إلى التدابير الاستثنائية في المجال الأمني لا تعكس قوة في الدولة ولا مناعة في الحكم، ناهيك عن الشعبية.
في غياب العمل السياسي في بلد كلبنان لا تبقى غير الطوائف.
والعمل السياسي ، الحيوية السياسية، التنوع السياسي، الشارع السياسي، الأعلام بما هو انعكاس للصراع السياسي، هو الذي أعطى لبنان – الكيان قيمته ودوره على المستوى القومي كما على المستوى الدولي،
أما في غياب السياسة وفي ظل سيادة المنطق الطائفي فإن لبنان يموت موتاً مطلقاً إذ تتناتفه الطوائف وتأخذه إلى العدو وإلى الاندثار،
والأمن في غياب السياسة قد يبني سجناً أو مأوى للمعاقين والعجزة أو ميتماً مضبوط الإدارة، ولكنه بالتأكيد لا يبني دولة.

Exit mobile version