طلال سلمان

على الطريق القتلة!

صارت السياسة في ليل هذه الحرب القذرة هي القتل ولا شيء غير القتل واستيلاد “النجاحات” من الجماجم وأشلاء الممزقة أجسادهم بالعبوات الناسفة والسيارات المفخخة ورصاص الأسلحة المزودة بكواتم للصوت.
صارت المشاريع السياسية تفرض نفسها بقوة الموت فيها لا بوعدها بحياة أفضل. فصناعها قتلة ومعارضوها ضحايا وليس بين الطرفين من علاقة إلا القتل والقتل وحده. القتل البارد. القتل العامد المتعمد المقصود لذاته. قتل أي إنسان وكل إنسان وكل ما له علاقة بالإنسان.
صار القتل والإيغال فيه والتبجج في إثبات القدرة على ممارسته مصدراً للقيادة والزعامة.. فمن يقتل أكثر يحتل مساحة أكبر في “مركز القرار”، ويكتسب “شرعية” لا تناقش ويصير “ناخباً كبيراً ” في معركة الرئاسة، هذا إن لم يصبح “رئيس التزكية والإجماع” لاستحالة وجود المنافس.
كان الزعماء، أيام زمان، يعرفون بعدد الأصوات التي نالوها في الانتخابات.
اليوم يعرفون من خلال أمرين: منع الانتخابات أصلاً، فإذا ما اضطرتهم الظروف إلى التسليم بما يتعذر إلغاؤه منها، استخدموا “الأموات” سلماً إلى الفوز بثقة الشعب واحتكار تمثيله!
وهكذا على امتداد الشهور الخمسة الماضية شهدنا سلسلة من الاغتيالات تنتظم في سياق واحد وتستهدف تحقيق هدف معلوم معتمدة نهجاً لا يخطئ في تفسيره أحد.
بدا الأمر باغتيال صورة ما تبقى من الدولة ورمزها الأنصع عبر اغتيال الرئيس رشيد كرامي في الأول من حزيران الماضي.
كان ذلك قتلاً للحكومة، كمؤسسة، وفكرة الدولة المختزنة لمشروع تجديد وحدة البلاد،
وكان طبيعياً، من بعد، أن يرفض الرئيس سليم الحص أن يكون إلا وكيلاً لميت في حكومة مستقيلة في دولة مغيبة… فلتظل الجريمة بكل تفاصيلها حاضرة أمام اللبنانيين جميعاًن وأمام العالم بأسره؟
لماذا نغلق عيون الميت التي تعكس صورة الحياة في تلك اللحظة؟
لماذا لا نحدق في عيون الميت حتى نرى صورة القاتل والمحرضين والشركاء وزعماء العصابة؟!
ثم انتقل “النشاط” إلى عنوان آخر من عناوين وجود ما تبقى من الدولة وهو: المجلس النيابي.. فبدأت مطاردة النواب واحداً واحداً، من صيدا (الدكتور نزيه البزري) إلى بيروت (نجاح واكيم)، فإلى طرابلس (الدكتور هاشم الحسيني)،
كانت ترافق محاولات الاغتيال تهديدات للنواب الآخرين المحاصرين والمحصورين في بيئة معينة يطوقها الهواء المسموم ويفرض عليها “حظر تجول الآراء” بحجة الحرص على “وحدة المجتمع” ووحدة قراره.
على إن الأخطر كانت حملة التشهير بالمجلس النيابي ذاته والتي اتخذت من المعركة الوهمية لرئاسته فرصة لتحطيم آخر صندوقة اقتراع، حتى ولو كانت موسمية وشكلية ومكشوفة ككل من كان بيته من زجاج!
*في السياق ذاته سياق تعطيل الحياة السياسية وإلغاء كل أنواع الصراع إلا القتل، يمكن تسجيل محاولة الاغتيال الجماعية التي وقعت في مطرانية الروم الكاثوليك بزحلة والتي نجا منها بأعجوبة إيلي حبيقة ومعه المطران أندريه حداد وإيلي الفرزلي وخليل الهراوي وجمهور المحازبين لهم والمعارضين لسمير جعجع ومن معه.
** على هامش هذا السياق لا بد من التذكير بالجهد المركز المبذول لاغتيال التيار الكهربائي، بالأعمدة والمصابيح والأسلاك، واغتيال مياه الشفة، ناهيك بالرغيف والمحروقات وسائر وسائل الحياة اليومية، بغير أن ننسى المدارس ومعلميها المضربين…
وها هم يمدون أيديهم الملطخة بدم الأبرياء إلى المستشفى..
قبل أيام “ضربوا” فقتلوا في المطار فهم يريدون أكبر كمية ممكنة من جثث الضحايا. يريدون أن يقتلوا أكبر عدد ممكن من الناس البسطاء.
لقد “ذبحوا” الدولة، “وشطبوا” الحكومة، و”شوهوا” صورة المجلس النيابي، و”عطلوا” الجيش، ونحروا النقد الوطني مستفزين بواسطته دماء المواطنين جميعاً،
ثم انتقلوا إلى الجمهور مباشرة: ففي المطار كان المهم أن يموت من “الناس” ما يكفي لتأكيد سيادة طرف “سياسي” معين لا يستطيع إثبات وجوده إلا بالقتل.
وهكذا ضرب بحجة إيذاء الجيش السوري في صورته ودوره كضامن للأمن في المطار خاصة وفي بيروت إجمالاً، فوجه ضربة إلى “المواطن”، راكباً ومودعاً ومستقبلاً، ساعياً وراء الرزق أو منتظراً وصول الرزق من وراء البحار،
واليوم يضرب في مستشفى الجامعة الأميركية، أهم مستشفيات لبنان، ومن قبل أهم مستشفيات الوطن العربي، ويضرب لقتل “الناس” ذاتهم: الزوار والمرضى، إنه يستهدف بالقتل مشاعر التواصل الإنساني، التعاطف، حتى بين أبناء اللون الواحد، فممنوع التواصل، ممنوعة وحدة الإحساس، ممنوعة عليك ممارسة إنسانيتك، ممنوع عليك حمل الورد إلى صديق مريض، وممنوع عليك أن تحفظ البقية الباقية من وجدانك سليمة معافاة توجهك إلى ما يحمي مبرر وجودك ومعناه.
لقد اغتالوا في الجنوب وحدة الأرض، فساعدوا العدو على تفريغها لكي يتسلمها – من بعد – بلا بشر،
واغتالوا في لبنان كله وحدة الترابط بالرغيف والمصلحة حين اغتالوا النقد الوطني.
واغتالوا رموز الدولة بمعظمها، حتى لا تبقى لها مؤسسات،
وهكذا لم يتبق إلا الشعب فتوجهوا إليه بأسلحة الغدر يحاولون اغتيال ارتباطه بالدولة، وارتباطه بالأرض، وارتباطه بعضه مع البعض الآخر.
وهكذا من المطار إلى المستشفى، ومن الكهرباء إلى الماء، ومن الرغيف إلى البنزين، ومن المدرسة الرسمية إلى الصحافة والصحافيين (حتى لا ننسى الشهيد الحي حسن صبرا)، يدورون على “كل حي” و”كل شيء حي” يحاولون إبادته أو إخضاعه لمشروع لا نعرف له علاقة بالحياة.
كيف نقاوم القتل؟!
لا وسيلة إلا بالخلاص من القتلة.
ومن يردع القتلى؟
لا أحد غير المقتولين أو المرشحين للقتل.
فلنقاوم بالدم المراق، بالأشلاء، خطة الإبادة،
فليس مستحيلاً أن يهزم الدم كواتم الصوت والعبوات الناسفة، بل العكس هو المستحيل أو يجب أن يكون مستحيلاً.

Exit mobile version