طلال سلمان

على الطريق الفرح اليتيم في غزة..

برغم كل المآخذ والعتثرات وتهالك “القيادة”، وبرغم كل الغموض والالتباسات وافتقاد اليقين حول المستقبل، فلقد عاش أهالي غزة ، أمس، لحظة فرح نادرة، وهم يشهدون بداية الانسحاب العسكري لقوات الاحتلال الإسرائيلي، وبداية الدخول “المدني” لسلطتهم الوطنية؟!
وضعوا كل مخاوفهم جانباً ونزلوا قبيل الفجر “يشيعون” من أذلهم وامتهن كرامة أرضهم لسبع وعشرين سنة بما يعوض عن النقص في استكمال التحرير. وبما يعيد الاعتبار إلى هؤلاء العائدين من الثورة في لباس الشرطة، والمكلفين بحماية مؤخرة الاحتلال بدل أن يكونوا – كما يفترض أن يكونوا – طلائع الفتح المبين.
ولعلها من الحالات النادرة في التاريخ: أن تحمل الجماهير رجال الشرطة على الأكتاف وسط الهتاف والأهازيج، بينما يرفع الشرطيون الذين دربوا على عجل على ما لم يألفوه وما لم يعدوا له أصلاً، الأصابع بإشارة نصر أخرس ووهمي، وهم يحاولون حفظ توازنهم النفسي حتى لا يتسببوا في تخريب مهمتهم الدقيقة.
لعلها المرة الأولى يكون فيها الشرطي رمزاً للحرية أو للتحرر وممارسة “القرار الوططني المستقل” لسلطة لا تكتسب “شرعيتها” إلا إذا وافق عليها المحتل.
… هذا بينما زملاؤهم من رجال الشرطة العرب يطاردون “الجماهير” في شوارع العواصم، لا فرق بين عامل ومحام وفلاح ومحازب للتيار الديني أو لتيار الكفرة والملحدين.
ولقد جلس سائر الفلسطينيين (والعرب) يتفردون على المنظر عبر الشاشة الصغيرة، يحاولون أن يسعدوا باللحظة النادرة فلا تسعف خلفيات الصورة داخل فلسطين وخارجها.
ليس فقط لأن مناخ الاقتتال وحروب الإبادة تعصف بجنبات الون الكبير، من الجزائر إلى اليمن، بل أساساً لأن استعادة هذه الأراضي الفلسطينية لا تعني بالضرورة استيلاداً لفلسطين.. وكيف من قلب الحرب الأهلية العربية ستبعث فلسطين؟!
إن كل عربي، غارق في بحر أحزانه، لا هو يتوقع النجدة من أخ شقيق ولا هو يملك “الحق” فيأن يطلبها.
والثوار القدامى هناك كما هنا يبدون مسوخاً بعدما تجردوا من أحلامهم وانغمسوا في حماة حروب السلطة التي تحلل كل حرام وتزور الحقائق الأصلية وتغتال الجغرافيا والتاريخ لشراء حكم تافه ولو فوق جبل من الجماجم.
غزة تعود إلى ذاتها فلا تجد من أهلها من هو متفرغ أو قادر على استقبالها واحتضانها إلا بعض السماسرة الطامعين في أن يجنوا من “إعادة إعمارها” ما تعذر عليهم جنيه في منافي “الشتات” المذهبة.
وعلى باب غزة ينزع الثوار أحلامهم ويدخلون إلى أرض غير محددة: هل هي المدخل إلى حلم الوطن أم هي باب الخروج منه إلى حيث تمنى لهم قادة العدو الإسرائيلي “الغرق في البحر”؟!
وللحظة، يبدو وكأنما إسرائيل تنسحب من فلسطين بقدر ما تسحب فلسطين من المنظمة لترميمها فيتيه النظام العالمي الجديد الذي لا يعترف بالأوطان والانتماء القومي أو الكفاح المسلح والثورات الشعبية.
.. ورئيس السلطة الوطنية يعتذر عن تورطه في استخدام كلمة “الجهاد” ويستنجد بالرسول العربي لكي ينقذه من حرجه في استذكاره نضال شعبه العظيم.
برغم كل ذلك فهي لحظة فرح نادرة لا يجوز أن تضيع وسط بحر الظلمات العربي البلا ضفاف.
فالناس هناك. هم أهل الأرض وهم أصحاب التاريخ، يعرفون الإسرائيلي ويعرفهم بما يكفي لكي لا يسلموا إليه مستقبلهم.
أهل غزة فيها: قبل الاحتلال وبعده، وقبل الشرطة المرشحة لدور لن تستطيع الالتزام به، وبعدها.
أهل غزة فيها،
وهم قد أخرجوا منها المحتل منذ زمن بعيد،
المهم أن يستطيعوا إنجاز “الجهاد الأفضل” وهو: إعادة غزة إلى فلسطين بعدما أخرجوا منها إسرائيل حتى قبل قرار الانسحاب المعزز بشرطة الثوار القدامى،
أهل غزة فيها.
وعساهم ينجحون في أن يجعلوا، ولمرة، الشرطة حقاً في خدمة الشعب بدل أن يسخر الشعب لخدمة الشرطة… حتى لو كانت مكلفة بحماية مؤخرة الاحتلال!

Exit mobile version