طلال سلمان

على الطريق الفارس العربي الأول

تراصفن نجمة نجمة، في سماء اغتيل قمرها وغيّب منذ حين، ورسمن بالوهج القاني درباً هادياً إلى الصح، ثم اشتعلن ببكارى الزهر كشجر اللوز المجنون بحب الحياة والفرح، المبادر إلى تحدي زمهرير الشتاء والعواصف الثلجية، بدلاً من الاستسلام إلى ليل الكمون الطويل،
تراصفن نجمة نجمة بأسمائهن العتيقة والملامح الأصلية بغير زينة، بالملابس “الفولكلورية” واللهجة العاملية الطريفة ثم تفجّرن في وجه المحتل، ببساطة وهدوء، بلا لافتات ولا إعلانات ولا أساطير أو خرافات! كن حقيقيات كالعدو تماماً وبهذا تم لهن النصر واندحر خائباً يجرجر أذيال الفضل، كما تعلمنا حكايات الأقدمين!
تراصفن نجمة نجمة وأسقطن الشريط والحزام والبوابات وأكذوبة الجدار الطيب: صريفا، كفردونين، مجدل سلم، قبريخا، برج قلاويه، النفاخية، بئر السلاسل، خربة سلم، ديركيفا، سلعا، مجدل سلم، الغندورية، برعشيت، شقرا، حاريص، حداثا، صروبين، بيت ياحون، كونين، حولا، فرون، عيتا الجبل، البازورية، جويا، السلطانية، الصوانة، تبنين، تولين، صديقين، صفد البطيخ، دير أنطار، وادي السلوقي، وادي الحجير، القعقعية، مزرة المشرف…
لقد استبق الجنوب الربيع، بل هو قد استولد الربيع بأن مد شميمه العطر إلى قلب ظلام العقم واليأس والقرف والاستكانة لمنطق القبائل الطائفية المسلحة في حروبها الهمجية المتواصلة لتحويل المدينة إلى كهف من كهوف الرعب والجريمة وأهلها إلى نفايات لا خير فيها ولا نفع منها، فإن كان لديهم بعض هذا وذاك أخذ منهم أو أجبروا على دفعه صاغرين!
مالنا ولهذا الحديث عن المنغصات في لحظة انبلاج فجر العيد الجنوبي العربي الجديد: إنه يوم النصر بإجلاء العدو الإسرائيلي، مرة أخرى، عن بعض أرضنا التي تعلمت كيف ترفض الذل والخضوع لمنطق القهر بالقوة.
بالطائرات، بالدبابات ، بالمروحيات، بالمصفحات والمجنزرات وسائر الآليات جاء جنوده والضباط وماريشالات الحروب “السريعة”، وبالمدمرات والفرقاطات والزوارق الصاروخية، أيضاً: نقبوا في ثنايا السماء، فتشوا كل غيمة، اقتلعوا الشجر والصخر والزهر، قلبوا موج البحر، احتفروا الأرض، شمشموا التراب، فحصوا الزبل والطين، استنطقوا العوسج والبلان والزعرور والأوراق الأبرية للسرو والصنوبر، دهموا أوكار النمل، اتخذوا من السنونو والمطوق رهائن،
لم يصلوا إلى شيء، فاستقدموا “الكشافين” والكلاب وأعادوا الكرة: قبضوا على الفراش، صادروا زهر الليمون، واعتقلوا الحبق ولما أفلت عبقه جاء أوري أور شخصياً لوضع الخطة المحكمة، ثم استنجد بموشي ليفي، ولما استأجرهما اسحق رابين قدم على عجل فأمر بإبادة المطر وشنق الدلعونا وإنهاء العملية!
ليس صحيحاً إنه الفارس العربي الأخير!
الجنوب هو الفارس العربي الأول، ولأنه عربي فهو مقاتل ومجاهد ورافض للاحتلال.
فارس واحد هو، لكنه يقاتل كألف، كمليون، كمئة مليون، كمئتي مليون، يعوض غيابهم القسري بزخم قتاله، يطيل المعركة لأنه يعرف، بحدسه السليم، إنهم قادمون وإن طال السفر، يريق دمه قطرات تحدد الطريق والهدف، من هنا إلى المجد، يقول الدم، وليس أصدق منه أو أشرف دليلاً.
ويقول الجنوب، بقراه الثماني عشرة، اليوم، كما قالها بقراه الأخرى وبلداته ومدنه من قبل: الشعب هو القوة الأقوى، الشعب هو المجد، القتال الشعب، والنصر الشعب، لا قائد إلا المقتحم الأول، ولا بطل إلا الشهيد ولا معركة إلا مع “العدو”، والعدو واحد.
ويقول الجنوب الذي اسمه الشعب وكنيته الأمة إن المجد كل المجد في “نحن” وإن الذلة والمسكنة والضعف في “الأنا”. وإن أي “أنا” لا تغني عن الناس، وإن المجهولين والمغمورين والمنسبة أسماؤهم هم الخالدون وإن المبرقعة أسماؤهم والصور إلى زوال.
ما يزال النداء هو النداء: جنوباً در، جنوباً سر، وانتصر…
من أراد قتال “العدو” فإلى الجنوب يذهب،
ومن أراد إلحاق الهزيمة بمشروع الهيمنة الكتائبي ففي الجنوب تكون المعركة ويكون النصر،
ومن أراد إسقاط أمين الجميل ففي الجنوب وعبر تدمير الدبابة الإسرائيلية التي أوصلته إلى السلطة يتم تحرير البلاد منه.
ومن أراد إلغاء الطائفية السياسية فعبر قتال العدو الذي حوّل أوهام الطائفيين إلى دولة قوية مهمتها أن تنصر كل مشروع طائفي على حساب الأماني الوطنية والقومية المشروعة للأمة كلها بمختلف أقطارها وبأبنائها جميعاً.
ومن أراد أن يكتسب شرف قيادة بيروت، وسائر أنحاء الوطن، فعبر قتاله الحق وضد العدو يأتيه هذا الشرف ويسلمه. الناس قيادهم، وليس لأنه قهر إرادتهم واحتل بيوتهم وسرق سياراتهم ثم أقام الحواجز على مداخل الزواريب ومخارجها ليؤكد هيمنته وحده بغير شريك!
والجنوب يتسع لكل القادرين على القتال والمندفعين إليه،
وليس من حق أحد أن يدعي الوصاية على الجنوب والجنوبيين، وبالأخص على معركة تحريره ، فيحدد كم من البنادق وأي البنادق هي التي تشارك وأيها الممنوعة من المشاركة إما لأنها “كافرة وإما لأنها ، من التنظيم الآخر أو التنظيمات الأخرى.
فالقتال ليس وساماً يمنح في المناسبات “السعيدة”، بل هو شرف ينتزعه المجاهدون بدمائهم والتضحيات.
وكرمى لعيون الله: ابقوا لنا الجنوب رئة نتنفس منها بعدما أنجزتم تسميم الهواء في بيروت حتى صارت الحياة مستحيلة أو تكاد.
وإذا ما كان بينكم من لا يريد الذهاب إلى الجنوب، فرجاء اتركوا الجنوب يأتي إلينا، وتحننوا علينا بإصدار أوامركم إلى حواجزكم بأن لا تغتال نصرنا اليتيم وهو لما يتكمل ولما يصل!
وسلام على الفارس العربي الأول في جنوب المقاومة التي يمكن أن تكون إسلامية ووطنية وقومية وتقدمية… فالأساس أن تكون مقاومة، وأن تكون قتالاً ضد العدو، والباقي تفاصيل،
وها هو بعض المنتمين إلى هذه التسميات في بيروت يدمرونها عبر اقتتالهم وانشغالهم عن العدو وعن المرتبطين به والعاملين له في الداخل.
فماذا تنفع التسميات بغير مضمون حقيقي يستمد أولاً وأخيراً من القتال الحق في المعركة الحق؟!
بل كيف بغير حماية بيروت وتحصينها يكون النصر في الجنوب الذي بذل ويبذل دماءه وأهله يعرفون إنهم لن ينالوا من النصر العتيد إلا شرف الجهاد وخلود الشهداء؟!
ولنحفر أسماء هذه القرى المجيدة على ألواح الصدور، لنضم عليها جنبات القلب. لنتخضب بحنتها. لنتيمم بترابها. ولنطلق أسماءها على أبنائنا والبنات. ولنتعلم منها الشعر والنثر وفن صناعة الغد الأفضل.
وما بعد ثمة مجال لمخطئ أو لمدعي ضياع عن الطريق: فنجمات الصبح الجنوبية تملأ الأفق ضياء وعبيراً ومعبرأً إلى التاريخ.
والأرض تنتظر أهلها،
وفي بيروت نحمي الجنوب أو نتسبب في ضياع النصر الأكيد.

Exit mobile version