طلال سلمان

على الطريق العيد يأتي من الجنوب…

جاء “العيد”، أخيراً، بقرار، ما كان ممكناً أن يجيء عفواً أو بقوة العادة. كان لا بد من استدراجه وإغوائه بتجاوز كل الموانع والأسباب اللاغية. فلا الدولة – قيد التأسيس – قد قامت فعلاً، وملامحها عبر حكمها تقصي العيد وتنفيه، ولا الأرض قد استعادت حريتها، فالاحتلال ما زال يطارد بالموت الأطفال والأشجار والبيوت في جبل عامل، ولا المواطن اطمأن إلى يومه – بسبب الغلاء وفضائح الوزراء وشركائهم في كل مجال – ولا إلى غده، بسبب من غموض المصير الذي ارتبط الآن بـ “مؤتمر” تتحكم فيه الأصوات الانتخابية الأميركية التي تتحكم فيها قوى الضغط الإسرائيلية.
برغم ذلك كله، وربما بسبب ذلك كله كان لا بد من “عيد” يمنح الناس وهم الفرح، في انتظار أن يعود الفرح فيعشش كالسنونو في قرميد البيوت في لبنان.
من زمان لم يأت “العيد” إلى لبنان، حتى لقد نسيه الناس، وشحبت مباهجه القديمة داخل ذاكرتهم المتعبة بأحزان دهر الحرب الطويل.
ومع غياب العيد والسلام والدولة غاب الجيش والعلم والأمان والشعور بالانتماء إلى أرض بذاتها، فصارت كل أقطار الدنيا وطناً للبناني الشريد المحروم في وطنه والمحروم من وطنه.
اليوم وبالقرار سيمشي موكب العيد – الدولة – الجيش – العلم – الأمان في شارع فؤاد الأول، الذي جعلته الحرب مجموعة “محاور” عسكرية للأخوة المقتتلين، وبين “البربير” وبناية “العجة” والمحكمة العسكرية، والمتحف صار العشب شجراً في السنوات السوداء، التي توجها الحصار الإسرائيلي لأميرة الحزن العربية – بيروت.
وأمس، حين وقف رئيس الجمهورية في ضيافة الجيش بمبنى وزارة الدفاع في اليرزة، محاطاً بميشال المر واميل لحود، ومن خلفهم كبار الضباط “يتفرجون” على الأسهم النارية وهي تنثر ألوانها فتضيء ظلمة بيروت التي تنتظر (بعد) الكهرباء، كانوا هم أيضاً يريدون أن يصدقوا إنه “العيد”، ويحاولون أن يرحبوا بمقدمه وان يوزعوا الهدايا ولو رمزياً لكي يسعد الفقراء.
لم ترجع ليالي زمان، بالضبط، ولا كان ممكناً أن ترجع، برغم إن مطربي أيام العز وقفوا على المسارح ينشدون الأغاني الجديدة بأصواتهم القديمة، في حين كان مطربو آخر ساعة ينشدون الأغاني القديمة بأنغامهم الجديدة، وكان ثمة جهد في “التعايش” و”التوافق” الفني…
لكن المؤكد إن أشباح الموت المجاني أو الموت بالمصادفة والخطف على الهوية والقصف العشوائي والحروب ذات الأسماء الرنانة، كل ذلك قد توارى حتى كاد يندثر.
والمؤكد إن لبنان ما زال قابلاً للحياة، بل هو الآن في ذروة إقباله للحياة، وشعبه في إقدامه وإبداعه يتخطى حكمه، بأطرافه جميعاً من الرأس المثلث إلى الحكومة الثلاثينية إلى المافيات الكامنة والظاهرة في البر والبحر والجو تفسد على اللبنانيين حياتهم وأحلامهم في غد أفضل.
كل مظاهر العيد، من الابتهاج الرسمي، إلى حمل الأعلام بالطلب، إلى الغناء بالأمر، كانت دون شوق اللبنانيين إلى ممارسة حياتهم الطبيعية، فالحياة هي هي العيد.
لكن هؤلاء اللبنانيين سيظلون على باب الجنوب: ينتظرون أن يجيء منه العيد والفرح وبشائر الاستقرار والاعمار والازدهار الموعود.
فلا الدولة ستقوم من دون الجنوب وفي غيابه، بل هي ستظل “شكلية”، بمؤسساتها وأجهزتها وألقاب مسؤوليها ونجوم ضباطها والسيوف، طالما استمر الاحتلال يحتجز إرادة لبنان وحريته عبر جنوبه الصامد والمناضل والذي يروي أرضه بدمه.
ولا مشروع الوطن سيكتمل ويرى النور طالما استمرت “الدولة” – بحكمها – مجرد ائتلاف في المصالح بين رموز المذاهب والطوائف…
بل إن كل هذه النوايا الطيبة التي حفلت بها خطب المسؤولين لمناسبة الاستقلال، أمس، ستظل كلاماً في الهواء ما لم يتوقف سيل المزايدات الطائفية والمذهبية التي تذهب بأي معنى للكرامة والسيادة والاستقلال والعدالة وبل وحقوق الإنسان برمتها.
لا يترافق العيد مع الطائفية، ولا يستوي الاستقلال مع المذهبية، ولا يكون لكلمات مثل الإنصاف والمساواة والإنماء أي معنى طالما استمر حاميها حراميها، وطالما تحولت “الجمهورية” من مزرعة لإقطاعي واحد له بعض الوكلاء إلى بضع مزارع لبضعة إقطاعيين تاجروا بالدم المراق ليجنوا مع المال الحرام النفوذ الحرام.
برغم ذلك كله، وفي انتظار العيد الذي لا بد آت، ومن الجنوب، وفي لحظة الفرح اليتيمة هذه التي اقتحمت ليل الأحزان اللبناني الطويل، لنعمل جميعاً من أجل تصحيح المسار حتى لا يلتهم الوحش الطائفي الأعياد جميعاً كما التهم أوكار هذه “الجمهورية” الوليدة!

Exit mobile version