طلال سلمان

على الطريق العودة إلى الداخل…

من الداخل جاء “أبو جهاد” خليل الوزير، وإلى الداخل عاد وأعاد في موكبه الجميع،
وما أرادت إسرائيل أن تنهيه بالاغتيال ها هو يبدأ بالشهادة نفسها،
لقد كانت دروس الحياة النضالية التي عاشها “أبو جهاد” كافية لأن يقتنع الجميع بأن طالب التحرير في الداخل يكون، وفي الداخل يبقى، ومن أجل الداخل يعمل،
.. وها هو جرس الاستشهاد يعيد تصحيح وجهة السير لطالبي التحرير بوسائل الكفاح المختلفة، غذ هو يثبت، مرة أخرى، إن العدو الإسرائيلي أقوى ما يكون في “الخارج” وأضعف ما يكون في “الداخل”.
تماماً بقدر ما أثبتت الانتفاضة انطلاقاً من الداخل وفيه إنها أقوى حتى من الثورة في الخارج وانطلاقاً منه.
ولقد عاد “أبو جهاد” الشهيد إلى الداخل الذي لم تبعده عنه الأحداث الجسام واضطراب السياسات واختلاف الاجتهادات، وضياع العمل الوطني الفلسطيني بين المنظمة – الثورة وبين المنظمة – النظام وبين المنظمة – الدولة وحلم الوطن.
ثم إنه أعاد إلى الداخل، أو إلى الاهتمام بالداخل، أو إلى التوجه نحو الداخل، كل من يجب أن يعود إلى موقعه الصحيح في ميدان المعركة المفتوحة من أجل الاعتراف بالوجود.
في هذا السياق يصبح للقرار الذي اتخذته القيادة في سوريا بأن يحتضن ترابها جثمان “أبي جهاد” معنى سياسياً يتعدى الرمزية، ويتعدى بالطبع عاطفة الإجلال لشهيد سقط في ساحة الجهاد المقدس.
فمؤكد إن دمشق لا تفتح أبوابها لكي تستقبل، فقط، جثمان الشهيد خليل الوزير، بل هي تستقبل أساساً القضية التي أعطاها خليل الوزير دمه وعمره كله.
بل هي تستقبل، بالدقة، الطور الجديد والخطير من أطوار هذه القضية التي شكلت وما زالت تشكل محور النضال العربي، في سوريا كما في فلسطين، وكذلك في سائر أرجاء الوطن العربي.
وبين الغزو الإسرائيلي للبنان، وللوجود الفلسطيني المسلح فيه، في صيف 1982، وبين الاجتياح الإسرائيلي لتونس، ولرمز الكفاح الفلسطيني المسلح فيها، في ربيع 1988، مرت مياه (ودماء) كثيرة في نهر العلاقات بين القيادة السورية وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية.
ولقد دفع العرب جميعاً، وما زالوا يدفعون، ثمناً باهظاً للخلل الذي أصاب هذه العلاقات، وكان أكثر المتضررين طرفاً العلاقة نفسها ومعهما أرضها: لبنان.
وإذا كانت المناسبة الحزينة، اليوم، لا تسمح بنقاش يستهدف تبيان وجوه الخلل وتحديد المسؤول عنها، وإشهار سيف المحاسبة، فمن الضروري أن تكون دروسها المستفادة هي الخيمة التي تظلل اللقاء الذي كان “أبو جهاد” خليل الوزير من العاملين بدأب على إتمامه بعد ضمان شروط نجاحه.
لقد جرب كل منطقه وأسلوبه وسياساته، والحصيلة بينة واضحة لا يخطئها من يريد أن يرى فيتعلم ويستفيد من دروس التجربة، بالصح والخطأ فيها.
فتونس ليست دمشق، والبحر بأخذ السفن إلى أثينا وليس إلى فلسطين، وفي القاهرة حسني مبارك والعلم الإسرائيلي وليست قيادة العمل الثوري العربي، واتفاق عمان يأخذ من فلسطين ولا يعطيها،
كذلك فالملك حسين ليس من فلسطين ولا هو الطريق إليها،
ولبنان الحرب الأهلية عبء على العرب يثقل عليهم ويشل قدرة المقاتل فيهم وهو في ظل نار الحرب وتحت ضغوطها يتمزق فتأخذ فيه إسرائيل مساحة لم تستطع أن تأخذها من قبل، برغم كل سمات الضعف في نظامه. فلبنان المنقسم على ذاته، لبنان – الفتنة يغدو طوائف ومذاهب وعشائر مسلحة مما يمكن إسرائيل من أن تخترق نسيجه الاجتماعي وتحوله إلى مشكلة إضافية للعرب بدل أن يكون منارتهم ومنتداهم ونموذجهم الحضاري المتقدم.
بالمقابل فلقد آن أن يعرف العرب جميعاً، ومرة أخيرة، الطريق الوحيدة إلى فلسطين.
وها هي الانتفاضة تقول بالقم الملآن هذه الحقيقة التي ضاع عنها الكثيرون بعد زلزال 1982.
فأرض فلسطين هي البداية والنهاية. هي الطريق وهي الهدف الأسمى. هي السيف وهي الراية.
وجثمان “أبي جهاد” خليل الوزير أرض فلسطينية، بقدر ما هو اغتياله قضية عربية تعني الجميع ويفترض أن تقرب بين الجميع، لأن الجميع مستهدفون بها ومعنيون بالرد عليهاز
لا أحد في مامن، والعداء لا يتوقف عند “الحدود” التي تريدها إسرائيل – في أي حال – أن تمتد إلى أقصى نقطة تستطيع طائراتها الأميركية أن تبلغها (وأسطورة بالفعل هي حكاية ما بين النيل والفرات لأن إسرائيل لن تتوقف على مرمى حجر من آبار النفط التي ستغدو بلا صاحب، إذا ما وصل جيش العدو إلى ما بين النهرين)…
وها هي خطة شولتس تحدد سقف المعروض على العرب، بمن فيهم الفلسطينيون،
فللعرب خارج فلسطين بعض الأرض، مقابل أن يعطي كل منهم إسرائيل معاهدة صلح منفردة تجعلها شريكته في دولته (كما حال مصر حسني مبارك)،
أما الفلسطينيون فعليهم أن يعطوا إسرائيل الأرض والسلام مقابل أن تسلمهم الخدمات البلدية وبرعاية “دولتهم” في الأردن لمليكها الحسين الثاني… ملك العرب.
لقد تعود العرب أن يبحثوا في ثنايا كل مصيبة تصيبهم عن “نفع” ما، أو عن “افائدة” ما، أو أن يروا شراً أقل مما كانوا يتوقعون أو بلاء أخف من الذي يتخوفون، دائماً، من وقوعه… وهكذا فغالباً ما يقولون وهم يتجرعون المصاب: “الحمد لله… الذي لا يحمد على مكروه سواه”، أو إنهم يهربون إلى التفلسف فيقولون: رب ضارة نافعة.
على إن العرب، اليوم، ومن خارج هذا المنطق، قد أسعدهم أن يسمعوا النبأ الذي انتظروه طويلاً فلم يسمعوه إلا مع خسارتهم القائد خليل الوزير، وهو النبأ المتصل باحتمال اللقاء بين القيادة السورية مع قيادة منظمة التحرير.
فبرغم إن المناسبة مثيرة للأحزان والمواجع، فإن اللقاء المحتمل يغطي بدلالاته وأبعاده على الحزن، حتى لو كان مجرد خطوة أولى على طريق الألف ميل.
ومثل هذا اللقاء مرشح لأن يكون، إذا ما تم في ظروف صحية، الرد النوعي المطلوب على اغتيال أبي جهاد خليل الوزير.
فدمشق لها قدرة متميزة في أن تربط بين الداخل وبين الخارج فلا يعود بينهما حدود.
وهذا أكثر ما تحتاجه المنظمة.
وهذا أبسط واجباتنا جميعاً نحو الانتفاضة التي تخطو خطوات واسعة نحو الثورة، خصوصاً وقد أعطاها استشهاد أبي جهاد خليل الوزير قوة النور والنار معاً: النور الضروري لرؤية واضحة تسقط معها الأوهام، والنار الضرورية لمواجهة العدو القوي جداً في الخارج والضعيف كل الضعف في الداخل وفي مواجهة الداخل.
ودرس أبو جهاد: نكون في الداخل فنبقى فيه أو نخرج منه فلا نعود إليه أبداً.
فإلى الداخل، أيها القائلون بالتحرير، ولو… عبر المؤتمر الدولي.

Exit mobile version