طلال سلمان

على الطريق العهد الجمهوري الجديد يولد برعاية ملكية … وجدة، بعد بيروت تبتلع شبح الجنرال

وخلال الرحلة الطويلة والمضنية بحثاً عن “الجنة المفقودة” في بيروت، ساقت الأقدار والمصالح البرلمانيين اللبنانيين إلى “قصر السلام” في جدة، فبلغت بهم السعادة حدها: كانوا يبحثون عن السلام فلا يجدونه، وها هم قد اهتدوا أخيراً إليه في “قصره”، وإلى صاحب القصر الذي باغتهم بمعرفته لهم ولبغيتهم ولأغراضهم ولبلادهم منذ ثمان وثلاثين سنة… أي منذ الأزمة الأولى لنظامهم والتي انتهت “بخلع” أول رئيس لدولة الاستقلال بعدما قدم نفسه على الدستور وشركائه في اللعبة، والأهم بعدما تجاهل المتغيرات في القريب القريب، فلسطين أساساً ثم سوريا، إضافة إلى الخطير الذي كان يشكل عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
حملتهم السيارات الأنيقة البيضاء، كما اليمام، إلى قصر بأقواس وقناطر ونوافير وحراسة بسيطة على المدخل القصر في المدينة وليس خارجها، ولكنها لا تبدأ به ولا تنتهي فيه. ليس هو بالبرج المشيد، لكن ظهره إلى البحر… وفي مواجهته، تقريباً ، وغير بعيد عنه قصر السلف الصالح، قصر الحمراء، الذي عاش فيه وحكم واغتيل فيه فلم يمت الملك فيصل.
والقصر القديم كصاحبه الراحل الكبير، عليه مسحة من الوقار والرزانة تجلل قرميده المغربي الأخضر، والبساطة تغلب على فخفخة الملك.. حتى لتحس إن “الرجل” الذي اشتهربالميل إلى الصمت والتأمل قد فرغ لتوه من وضوئه وتلبث منصتاً في انتظار الدعوة للصلاة في المسجد الأقصى بالقدس الشريف.
قاتل الله التداعي، فلا تلك الصلاة الموعودة قد أقيمت بعد، ولا القدس قد عادت أو استعيدت، ولا المسجد قد نال حريته واستعاد طالبي الصلاة فيه، ولا “الرجل” قد بقي (إلا في الوجدان) ولا الحال على ما كان أو بخاصة على ما ينبغي أن يكون.
ما علينا، فالموضوع الآن لبنان والسلام فيه، والقصر المزهو باسمه يشهد لحظة تاريخية نادرة تمنح صاحبه فرصة عزيزة لكي يطل على العرب والعالم كصاحب مبادرة ناجحة في أزمة خطيرة عجز في معالجتها أبرع الخبراء والمتخصصين.
جلس إليهم في صدر القاعة الفسيحة الأرجاء، وانتظموا في صفين طويلين، ومن خلفهم الأبناء وورثة المجد التليد، مراعين مقتضيات السن والتوازنات شبه الطائفية التي أربكت المراسم الملكية، توزع الأمراء في ما بينهم ومن حولهم يؤنسون وحشتهم ويخففون بالمجاملات والقفشات والمداعبات من وطأة الوقار في حضرة الملوك.
بعد إخراج الصحافيين الذين نعموا بالمصافحة والفرجة السريعة على نوابهم وقد انفرجت أساريرهم واستشعروا قوة لم تكن فيهم بعد التوافق على الوفاق، تحدث الملك فمنحهم المزيد من الثقة بالنفس والطمأنينة والتفاؤل بتحقيق الأماني المطلوبة في الصدور: أليسوا هم عدة “العهد الجديد” ومداميك بنائه، خصوصاً بعدما نجحوا في حصر خطر “الوافدين” الجدد في النطاق الأضيق (108 وليس 128 كما كانيريد الكارهون الذين يمضغون الآن غيظهم على مضض)!!
وكان طريفاً أن تشهد الملك فهد بن عبد العزيز يحاضر في رموز النظام الجمهوري، البرلماني الديموقراطي، ناصحاً ومرشداً، وداعياً إلى ضرورة تعزيز الوحدة بالاصلاح السياسي، وإلى حماية السيادة والاستقلال بالوفاق الوطني مدعماً بالعلاقة الطيبة مع سوريا.
“في هذا اليوم المبارك، لا بد من أن يكون الاستهلال، بعد حمد الله، شكراً للشريكين الغائبين حتى يترك المسرح لصاحب الجهد الأساسي، وأن تمثلا بوزيري خارجيتهما (سيد أحمد غزالي والدكتور عبد اللطيف الفيلالي).. ثم بعد ذلك تدفق الملك فهد في الحديث عن لبنان واللبنانيين وعن النواب “الذين سيسجل لهم التاريخ” مأثرة التوافق، كما سيسجل لبلدهم غناه “بالرجال ومقدراتهم ومعارفهم وبعد نظرهم ومقدرتهم العربية وغير العربية، فاللبناني محترم في كل مكان من العالم”.
وكان لا بد من التوكيد، وأكثر من مرة، على “إننا لن نتخلى عن لبنان وسوف نكون دائماً تحت إمرة نواب لبنان، وقادة لبنان، وشعب لبنان، بما يعود على لبنان بالخير، لأن الوضع الآن ليس مجرد مهمة أديناها وانتهينا منها”… “ومن المؤكد أن بقية الأمور ستحل إن شاء الله، ولذلك عندما قلت إننا نحن كلجنة ثلاثية سوف نبقى بشكل جيد جداً نتابع الأمور معكم أنتم وليس خارج نطاق أعضاء المجلس النيابي”.
ثم جاء الكلام الأهم: فالمملكة جاهزة لأن تبذل ما تستطيع من مجهود للمساهمة في بناء لبنان، وسوفت تكون دائماً معكم في جميع الأمور الخارجة عن أعمال اللجنة الثلاثية.
والمملكة التي تعتبر إن النواب قد منحوها ما تفاخر به، ومحضوها ثقتهم لأنهم اختاروا أن تكون إقامتهم ومناقشاتهم واتفاقهم فيها، “فأكرمتمونا وطوقتمونا بطوق كبير جداً بحيث لا نعرف كيف نستطيع أن نرد هذا الكرم اللبناني”.
ما أطيب وقع هذا الكلام على الأذن النيابية الناعمة! إنه كلام يطرب، ولولا بعض الحياء لاندفع البعض إلى وسط القاعة ليرقص منتشياً بهذا الوعد المفتوح.
في أي حال فقد اغتنمها واحد يتحلى بمزيد من الشجاعة في انتهاز الفرص ورفع عقيرته، قبيل انتهاء الغداء، بقصيدة عصماء، لكن “الحساد” من زملائه أضاعوا عليه الفرصة بالتشويش عليه حتى لا تسمع الأذن الملكية فيخدشها “النفاق” النيابي مسفوحاً على المائدة الملكية.
ولقد رد النواب بلسان رئيسهم فشكروا وعاهدوا على الإنجاز،
ثم وقف الأمير سعود الفيصل ليتلو بيان اللجنة العربية الثلاثية فتوجه إلى “مولاي خادم الحرمين الشريفين الملكي فهد بن عبد العزيز، سيدي ولي العهد والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وقائد الحرس الوطني الأمير عبد الله بن عبد العزيز”، ثم إلى سائر الحضور بالنص “اللبناني” لهذا البيان الجديد للجنة العربية.
ولقد لفت النواب الاستخدام المتكرر لتعابير “السيادة والاستقلال” و”بسط السلطة الشرعية”، ربما بأكثر مما طلبوا، وربما بأكثر مما يجب، ولكنهم غفروا هذه المبالغة لعلها تروي عطش المشتاقين إلى السيادة وتسقط ذرائع المتاجرين بها، فتسهل على فدائي اللجنة إنجاز الطور الجديد والأدق في مهمته المستحيلة ببيروت مع جنرال الحرب.
… صحيح، ماذا تراه كان حدث لو جاء “الجنرال”؟!
على هذه النقطة كان ثمة إجماع تمثل في توحيد الرأي حول “عقل” الجنرال، وحول فهمه السياسي، وحول ذكائه النادر في قراءة اللحظة السياسية والتقاط دلالاتها!
وبالتأكيد فإن نسبة كبرى من النواب فرحت بهذه السقطة السياسية الجديدة لجنرال الحرب، واعتبرتها “القاضية”، فماذا يريد هذا الأرعن أكثر من أن يدعوه ملك عربي، وأن يحظى برعاية لجنة ملكية – رئاسية مكلفة بتنفيذ قرار قمة عربية؟! وهل ثمة مجال للشك في أن دمشق قد استمزجت فلم ترفض الفكرة بالمطلق، ربما لثقتها بـ “عقل” الجنرال السياسي؟!
همس كثيرون في سرهم: الحمد لله إنه لم يأتي… لو أتى لسرق منا “الكاميرا”، ولأخذ من طريقنا الكثير!
ماذا بعد كلام الملك وبيان اللجنة الذي يتضمن “قراراتها” ويحلها حيث يجب أن تكون بحيث “تقرر” و”تطلب من رئاسة المجلس النيابي” وغيرها من السلطة ما يستلزمه تنفيذ قراراتها من تدابير؟!
لقد تقصد الملك أن يخص بالشكر الرئيس السوري حافظ الأسد، بداية، ثم أن يتوجه بشكر خاص اعتنى باختيار كلماته ودلالاتها إلى الرئيس العراقي صدام حسين الذي يعرف عنه “صدقه في كلمته، إذ عندما يلتزم فإنه يلتزم بجد وإخلاص، وهذا واجب أي قائد عربي”..
أما الأمير سعود الفيصل قفد ضمن بيانه، باسم اللجنة العربية، “التقدير الكامل للتعاون المثمر الذي أبدته الشقيقة سوريا للوصول إلى هذه المرحلة” مؤكداً إنها “تقدر بشكل خاص تأكيد الشقيقة سوريا على استعدادها للإسهام الجاد في وضع وثيقة الوفاق الوطني موضع التنفيذ”؟!
هل حلت مشكلة الموقف العراقي الذي وحده، تقريباً، وفر العون لجنرال الحرب؟!
وهل يمكن تجاهل الاعتراضات التي أبدتها الأطراف الحليفة لسوريا حول إقرار بعض البنود بصيغة مغايرة لتلك التي وضعتها اللجنة العربية نفسها في الوثيقة، نتيجة استقرائها للوضع في لبنان، وليس نتيجة لمطالبة سوريا أو لمراعاة لتلك الأطراف اللبنانية؟!
ثم إلى متى يستمرون في تجاهل “قوى أمر واقع” أخرى موجودة ومؤثرة مثل “حزب الله”، وهل بالإمكان – بعد – الاعتراف بهذه القوى التي لا تقبلها ولا تحبها المملكتان العضوان في اللجنة الثلاثية، أم سيستمر الأخضر الإبراهيمي يمشي على أطراف أصابعه فوق حقول الألغام مع وعيه بضرورة نزع الصواعق طالما تعذر استخدام كاسحات الألغام لعدم توفرها أصلاً؟!
ويبقى لغز الألغام ممثلاً بالموقف الفرنسي الذي لا يستطيع تجاهل النجاح ولكنه يأبى أن يتقدم للمساعدة في التسوية إلا إذا ضمن حصته في الرئاسة…
والموقف الفرنسي محاصر بالمصالح والغرائز، حتى ليكاد وزير الخارجية دوماً أن “يتأتى” وهو يتحدث عما تم في الطائف مما يرسم الإطار للتسوية المنشودة في لبنان.
ولقد ظهر الارتباط واضحاً في حديث الوزير دوماً حين حادثه، صباح الأمس، وزير خارجية الجزائر، باسم اللجنة الثلاثية، مطارداً إياه إلى إسبانيا حيث كان.
ولأن فرنسا لم تضمن، في ما يبدو حصتها، ولأنها تشتبه في أن “الصفقة”قد تمت وانتهى الأمر بين أطراف ثلاثة لا رابع لها هي سوريا والولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية، فهي تأبى أن توافق متمسكة بمنطق “عنزة ولو طارت”!
ويقول بعض من اتصل بباريس مؤخراً إن ما لفته في حديث بعض المسؤولين الفرنسيين في الخارجية الماحهم إلى إمكان العودة مجدداً إلى مجلس الأمن، إذا لم تنجح الجهود العربية في فتح الطريق لتنفيذ قرار الطائف.
وبغض النظر عن كون هذا المنطق العجيب هو بمثابة تحريض لجنرال الحرب، فإنه يعكس تجاهلاً فاضحاً للواقع السياسي الراهن، فالأكثرية الساحقة الماحقة من أعضاء مجلس الأمن، بما فيها الدول العظمى، تقف مع القرار ومع التنفيذ بلا تحفظ، فما معنى القول بالعودة إلى نيويورك إلا الرغبة في كسب الوقت أو استدراج عروض المشاركة؟!
ماذا بعد النطق الملكي؟
ماذا بعد الاختتام، وتتويج الاختتام الناجح بالجلوس إلى المائدة الملكية؟!
لا يبدو النواب في عجلة من أمرهم، فهم هنا في أحسن مقام… ولا تبدي المملكة أي ضيق بإطالة أمد ضيافتها، بل هي – ومن باب الحرص على أمنهم وعلى إنجاز العهد بضمان تنفيذ المقررات الجديدة – تفضل أن يبقى النواب في ضيافتها حتى يضيء الأخضر الإبراهيمي الضوء الأخضر في “الجنة المفقودة” والمفتقدة… بيروت.
و”نواب الشرقية” بشكل خاص، يتوقعون تطورات سياسية مهمة تبدل في الجو السياسي السائد، وتمسح آثار تظاهرات “الجنرال” التي طمأنتهم بأكثر مما أخافتهم… فإذا كانت “الديمقراطية” هي سلاح الجنرال فابشر بطول سلامة يا مربع، ومعك جورج سعادة وبطرس حرب ونصري المعلوف ورينيه معوض ومخايل الضاهر وبيار حلو… وصولاً إلى جبران طوق وبيار دكاش وطارق حبشي ومن تبقى ممن “كانوا” متطرفين فاهتدوا إلى السلام والسلامة!
أما نواب “الغربية” ففي أحسن حال: هم بين الناجحين، بالضرورة، لقد ربحوا الغد من غير أن يخسروا أيامهم الحاضرة، بما فيها “اليوم المبارك” في جدة.
وهم قد “ربحوا” في الاصلاح من غير أن “يتضرروا”، ولو بالإحراج، في المعركة الوهمية التي ارتفع غبارها إلى عنان أسماء حول… السيادة!
وإذا كان الملك فهد قد ضمن كلامه ما يغمز من قناة منتقدي المملكة العربية السعودية أما لعدم المعرفة وإما لقلة أمانة الرواة، وإما بسبب من الغرض الذي هو مرض، فإن جميع سامعيه لم يعتبروا أنفسهم معنيين بالنقد، وإن كان بينهم من “سيتبرع” بإبلاغ “الرسالة” إلى من يعنيهم الأمر!
على إن الملك الذي استخدم الهجوم باعتباره أنجح وسائل الدفاع كان يعني بكلامه من لا يستطيع النواب إبلاغهم رسالته، وإن كانوا قادرين على تلقيها مباشرة، وفهم دلالاتها ولاسيما دلالة التوقيت.
… مع الأخذ بالاعتبار أن هذا الكلام يطمئن النواب إلى جدية المملكة في رعاية التنفيذ واستعدادها لمواجهة أولئك الذين قد يشاغبون عليه في محاولة لمنعه.
في المساء كان النواب يتعشون لوحدهم إلى موائد منفصلة في قصر المؤتمرات.
كان “شبح” الجنرال قد شحب حتى كاد يختفي تماماً، وكانوا أكثر استعداداً لتناوله مباشرة وبصيغة الماضي، أما المستقبل ففي أيديهم – حتى إشعار آخر على الأقل – وطالما إنهم “هم” الموضوع فحيثا تلاقوا يكون لبنان ويكون القرار ويكون “العهد الجديد”!
وهل للجنرال قدرة على مواجهة الملوك؟!
ثم إنه الآن لا يواجه النواب وحدهم، ولا الطبقة السياسية برمتها، ولا القوى السياسية بأحزابها المختلفة جميعاً.
إنه في لحظة “الاعتذار” الرقيق عن قبول الدعوة الملكية للقدوم إلى السعودية، قد وضع نفسه في مواجهة العرب جميعاً، بدءاً باللجنة العربية وانتهاء بالقمة، وسوريا هنا وهناك وهنالك.
كذلك فهو قد وضع نفسه في مواجهة العالم الذي بادر إلى إعلان التأييد بلسان واشنطن حتى قبل أن تصدر القرارات،
ولن تنفعه كثيراً التظاهرات المنظمة في بيروت…
وبيروت هي المقصد وهي معقد الرجاء،
ولا بد من بيروت ولو طال السفر وشمل عواصم بعيدة مثل روما والجزائر والرباط… فالمهم الوصول.
ومن يرفض الوصول على سجادة ملكية حمراء، خصوصاً وإن اللون الأحمر لم يعد يرمز إلى الثورة المخيفة أو على العاملين تحت الأرض لتغيير مستقبل الأرض ومن عليها.
بيروت تنتظر،
والعواصم تنتظرها،
ومن في جده ينتظرون بيروت،
والحدث، بداية وانتهاء، في بيروت، وليس إلا في بيروت.

Exit mobile version