طلال سلمان

على الطريق العماد لا حصاره والجمهورية لا قصرها!

يعيش اللبنانيون حالة من القلق المعذب: فقرار مجلس جامعة الدول العربية يبشرهم بوقف نهائي لاطلاق النار ورفع الحصارات المفروضة على جميع المرافق البحرية والبرية والجوية وفتح كل المعابر، واستيلاد مرجعية أمنية عربية ممثلة بالمراقبين… لكن “الوقائع على الأرض” لا تطمئنهم تماماً، والتفسيرات الاستنسابية للنص القاطع بوضوحه، والقبول الانتقائي لما يلائم الغرض من بنوده، كل ذلك يئد فرحتهم الوليدة ويغتال طمأنينتهم التي تحاول التسلل عائدة إلى صدورهم عبر صور الموت والدمار والقصف المجنون.
وهم يجسدون مخاوفهم الباقية في أسئلة وتساؤلات مشروعة منها:
هل ألغيت غرفة العمليات العسكرية المشتركة، البحرية والجوية، أم ما زال العماد ميشال عون يستبقيها مدخراً إياها كصاعب ينذر بإمكان تفجير القنبلة الموقوتة مجدداً في أية لحظة؟!
إن النص العربي واضح وصريح، لكن قراءة ميشال عون استثنت من رفع الحصارات تلك المرافق أو الموانئ التي كانت الذريعة لاندلاع نار العماد في الهشيم اللبناني يوم الثلاثاء الأسود في 14 آذار الماضي.
لم تكن ثمة مشكلة حول موانئ بيروت وجونيه وصور وصيدا وطرابلس، ناهيك بالمطار الدولي الذي أغلقه العماد بفرمان همايوني يشكل “سابقة” خطرة” وأعلن فتحه أمس مكرراً “السابقة” ومخاطرها،
ولم يكن ثمة ما يوجب تحويل الموانئ الأخرى إلى مشكلة، لولا إصرار العماد على انتزاع إقرار بشرعيته وسلطته الشخصية “خارج الدويلة”، ولو بقوة النار… فلو إنه كان يطلب حلاً عملياً لوجد في اقتراحات الرئيس سليم الحص بغيته، ولكنه كان يطلب المشكلة ليحولها إلى ذريعة للحرب ومن ثم منطة إلى الشرعية المشتهاة.
من يجبر العماد عون على إعادة قراءة القرار العربي والتقيد بمضمونه؟!
إن كان يريد تفسيراً فلا بد له أن يطلبه من مصدر القرار، أي من جامعة الدول العربية ومن الآتين باسمها للإشراف على التنفيذ.
ولكنه يطلب تفسير ما لا يحتاج إلى تفسير، فلا بد من التساؤل عن الغرض، إذن،
أتراه يريد ثمناً لموافقته؟! يشعل النار وينادي “حريقة” فإذا هب “الأجاويد” لإطفاء النار طالبهم بالتعويض لأنه المتضرر؟1
ومن هو المعني بتعويضه، وعم سيعوضه، ومن سيدفع الثمن المطلوب؟!
ثم، إذا كان “وقف النار” يحتاج إلى كل هذا الجهد المكثف، عربياً ودولياً، فأي جهد خارق ذلك الذي يلزم لانبثاق الحلم بنهاية معلومة للحرب الأهلية في لبنان التي يشكل وجود ميشال عون سبباً لادامتها وتعميمها وتطوير أسلحتها بحيث تحرق الأخضر واليابس؟!
واستطراداً، وفي عودة إلى أساس الموضوع:
من ينهي الالتباس بين الشرعية وبين سلطة الأمر الواقع سواء أكانت ميليشيات طائفية مسلحة أم قوة عسكرية مموهة بغلالة من “الشرعية” كما وضع العماد عون وجيشه في هذه اللحظة؟1
لقد تلقف ميشال عون “كرة النار”، على حد تعبيره، من أمين الجميل في 23 أيلول 1988، فصار الوريث الشرعي لتركته، أو وكيل تفليسة مؤسسة الرئاسة في لبنان.
وقصد ميشال عون القصر الجمهوري فاحتله، فصار رمز الشرعية ومصدرها!
لكأنما “الشرعية” مكان!! فمن دخل القصر الجمهوري فاحتله، وبغض النظر عن الوسيلة، فهو الشرعي ابن الشرعية وأبوها وأمها الحنون!
لا يهم إن هو وصل بالنفوذ السوري أم بالدبابة الإسرائيلية أم بحراب سمير جعجع المدعمة لمشروع انقلاب عسكري صريح.
بل لكأنما القصر الجمهوري “بيت الطائفة”، من دخله أسبغت عليه نعمة تمثيلية شاملة وحصننته باعتبارت معنوية تكاد تصل إلى مرتبة التقديس، وفرضته على الناس “رئيساً” لا حق لهم بالاعتراض عليه أو مناقشة شرعيته!
فليس ميشال عون رئيساً منتخباً، ومع ذلك فهو “الشرعي” بل “الشرعية” شخصياً،
وليس ميشال عون مرجعاً روحياً مهاباً يختزل كرامة الطائفة، أو قائداً تاريخياً يتجاوز بشخصيته الفذة حدود النقد أو الاعتراض،
وحصانة الرئيس تنبع من كونه مجسداً “لإرادة الشعب”، ولو نظرياً، عبر انتخابه بأكثرية الثلثين فما فوق من “نواب الأمة”، وليست إرثاً شخصياً أو منحة تأتيه من الطائفة العظمى،
وإلى يوم 22 ايلول 1988 كان ميشال عون مجردموظف برتبة مدير عام في الدولة، تمكن معاقبته وكف يده ووقفه عن العمل وسجنه “توقيفاً صارماً لمدة ستين يوماً، بقرار من وزير الدفاع،
وإلى يوم 22 أيلول 1988 كان ميشال عون مجرد مرشح في طابور المرشحين لمنصب رئيس الجمهورية، لا هو أوفرهم حظاً ولا أعظمهم تأييداً.. فمراجع الطائفة العظمى، السياسية منها والروحية، كانت تجهر باعتراضها عليه لنقص كفاءته وضعف شخصيته إضافة إلى “عسكريته”، كلهم ، تقريباً، كانوا ضده مشروع رئيس، بدءاً برئيس الجمهورية آنذاك، أمين بيار الجميل، وانتهاء بالبطريرك الماروني، مروراً بالنواب ومجموع الشخصيات السياسية الطامحة وقوى الأمر الواقع المسلحة وعلى رأسها “القوات اللبنانية”.
كان “العماد” يفتقد النصير في الداخل، داخل الطائفة العظمى، وداخل البلاد،
وحين دار الأميركيون لتسويقه وجدوا استجابة محدودة لدى بعض القيادات الإسلامية التي تكن الحنين للدولة وترى في الجيش كمؤسسة تعبيراً عنها، ولكنهم ووجهوا بمعارضة مسيحية شاملة.
فماذا عدا مما بدا حتى صار ميشال عون رمزاً للشرعية وللدولة وسيادتها على أراضيها كافة؟!
هل تراه يعوض الجمهورية التي تهاوت في ظل ستة أشهر من “عهده” الميمون فخسرت من مرافقها ومن بنيتها التحتية ومن شعبها ومن مبررات وجودها ما لم تخسره في أربعة عشر عاماً من الحرب السابقة على “تشريفه” القصر نتيجة أمر دبر بليل مع نهاية العهد الميمون الآخر، عهد أمين الجميل؟!
لقد قام العرب والعالم بما عليهم إزاء الوضع في لبنان، فقرروا التعاون على إطفاء نار العماد،
لكن المهمة الأصلية ما زالت تنتظر فرسانها هنا في لبنان،
فوقف النار يجب أن يثبت وأن يسري مفعول القرار العربي (الدولي) بكامل بنوده،
وعلى اللبنانيين عموماً أن يلتفتوا بالعلاج إلى أساس المشكلة، وهي سياسية وليست أمنية.
فليست القضية نار العماد إنما وجوده حيث هو في “الملجأ الجمهوري” متحصناً بشرعية لا تنكرها عليه الطائفة العظمى في حين أنكرها عليه اللبنانيون عموماً ومعهم العرب والعالم.
العماد لا ناره،
الجمهورية لا القصر الجمهوري،
الدولة لا الرئاسة ولا شخص الرئيس،
النظام والضرورة الملحة لاصلاح الخلل فيه حتى يتسع “لرعاياه” من اللبنانيين جميعاً،
الهوية العربية للبنان المهددة بالاحتلال الإسرائيلي لا مسألة الوجود العسكري السوري الذي يعالج كنتيجة منطقية لاستقرار أوضاع لبنان المستعيد عافيته ودولته وشرعيته والمؤسسات.
لقد حددت لنا الجامعة العربية، ومعها العالم، معالم الطريق إلى إنقاذ الذات،
والخطوة التالية مطلوبة منا في لبنان،
ولعلها مطلوبة من الطائفة العظمى بالدرجة لاأولى،
فاحلوار السياسي لا يمكن أن ينطلق صحياً معافى إذا ما استمرت المماحكة في ضرورة الاصلاح، أو استمر التشاطر بتقديم الانتخابات الرئاسية على الاصلاح أو استمر العماد في موقعه يقود معركة “التحرير” ضد الاصلاح والانتخابات والجمهورية معاً،
… وضد جامعة الدول العربية والعالم!
إنها فرصة قد تكون أخيرة لإنقاذ الذات بالتصدي للمهمة الوطنية الجليلة: استنقاذ الجمهورية،
وإلا عاد “الضابط الصغير” يرمي كرة النار في وجهنا، أوليست هي مصدر شرعيته!
فهو بالنار أتى، وبالنار يدوم، وبالنار يزول، أو هكذا يريد أن يفرض علينا.
والبداية : تحرير القصر الجمهوري، ومن ثم تحرير الجيش، وتحرير “الشرعية” من غاصبها، تمهيداً لاستيلاد الجمهورية الجديدة بالاصلاح السياسي وانتخاب برنامجه وبالتالي المؤهلين لإنجازه.
والكلمة الأولى المطلوبة “مارونية”،
… والمعابر مفتوحة لمن أراد التواصل بالحوار من أجل غد أفضل للبنان الجريح.

Exit mobile version