طلال سلمان

على الطريق العرض الأخير؟!

دخل وارين كريستوفر إلى أريحا، الملعونة إسرائيلياً، المباركة فلسطينياً، ولم يخرج بعد!
ولقد اكتشف الإسرائيليون، بعد توقيع الاتفاق على اتفاق الاتفاق المتفق عليه في الاتفاق الأول، أطلال كنيس متهدم منذ مئات السنين، بعد إعلان أريحا “عاصمة” للحكم الذاتي الفلسطيني، فعادوا إليه بعد الخروج، وبالسلاح وتزاحموا للصلاة فيه، ليلغوا فلسطينية أريحا ذاتها..
… كذلك اكتشف وزير الخارجية الأميركية “محاسن” ذلك الاتفاق بعد زيارته التاريخية لتلك المدينة الغائرة، فاقتنع مع إسرائيل بضرورة تعميمه على أطراف ما كان يسمى الصراع العربي – الإسرائيلي جميعاً.
وهكذا تحوّل الوزير الخطير من راع لمفاوضات السلام وشريك كامل ووسيط نزيه إلى مجرد ساعي بريد ينقل الأمر اليومي الإسرائيلي الجديد: نموذج غزة – أريحا هو “العرض الأخير”، فإما أن تقبله دمشق ومعها بيروت استطراداً، وإما أن ترفضه وعلى مسؤوليتها!
لقد صار نموذج كامب ديفيد من الماضي، ومعه مصر ودورها في الصراع التاريخي المرير الذي تريد إسرائيل أن تقتنع أن ياسر عرفات أقفله بجرة قلم. صار “التوقيع” الفلسطيني هو الحاضر وعليه سيبنى “مستقبل الشرق الأوسط” وفاقا لما تخيله وزير خارجية إسرائيل ومهندس اتفاق أوسلو شيمون بيريز.
بالتوقيع الفلسطيني تحاول إسرائيل الآن أن تبتز العالم، وأن تلغي العرب جميعاً عبر الإيحاء بأن الطرف المعني قد سلم فانتهى بتسليمه ذلك الصراع الذي امتد لقرن أو أكثر، فقط لأن “العرب” كانوا يحرضون الفلسطينيين على ادعاء مليكتهم فلسطين!
بل إن إسرائيل تحاول الآن تصوير “عرب الخارج” وكأنهم يعتدون عليها وعلى الفلسطينيين معاً، وتشكو هذا التطرف للإدارة الأميركية الحساسة جداً إزاء كل ما من شأنه تشجيع الإرهاب!
لقد حل “السلام”، وأولئك الذين ما زالوا يرفعون أصواتهم بالاعتراض إنما هم أعداء لـ “السلام”، ولنفي هذه التهمة القاتلة عنهم فلا بد من أن يهللوا لغزة – أريحا وأن يتمنوا أن تشملهم نعمته.
والعرض سخي جداً: فهو يتضمن إلغاء الجمهورية العربية السورية والجمهورية اللبنانية والمملكة الأردنية الهاشمية لكي تتحول هذه الأقطار جميعاً إلى محميات إسرائيلية، جيوشها شرطة لقمع الرافضين، وأرضها مثل بحورها وسمائها وأسواقها مفتوحة لنتاج العبقرية الإسرائيلية، وقرارها مرتهن لدى الحلف الإستراتيجي الأميركي – الإسرائيلي.
فإسرائيل تعرض إعادة الجولان إلى سوريا مقابل مد حدود الاحتلال أو الهيمنة إلى الحدود السورية – التركية.
أما لبنان فلا تريد منه إلا الاتفاق الأمني، أي الاتفاق على السوري، أو إلزام السوري بمنع نشوء أو نمو أي مقاومة للاحتلال، سواء في لبنان أو انطلاقاً منه إلى “داخل” الأرض الفلسطينية المحتلة!
فمع لبنان لا حديث في السياسة، إذ لا اعتراف بالدولة ولا باستقلالها وسيادتها على أرضها… وذلك لا يمنع حكام إسرائيل من تطمين اللبنانيين كل يوم أنهم لا يطمعون في شبر واحد من الأرض أو في نقطة واحدة من المياه اللبنانية؟!
نموذج غزة – أريحا، وعملياً أريحا فقط، هو “العرض الأخير”: أي لا دولة، ولا سيادة على الأرض، فالأرض مشاع، والشعب مشطر ولكل “فئة” منه وضعها “القانوني” الخاص!
وقبل أن يختطف الكوماندوس الإسرائيلي مصطفى الديراني من قريته قصرنبا في البقاع، كانت إسرائيل قد اختطفت القرار السياسي الأميركي معطلة دور الوسيط النزيه والشريك الكامل في “العملية السلمية”.
وفي آخر رحلتين قام بهما كريستوفر إلى المنطقة، تحت لافتة إعادة الروح إلى المفاوضات، لاسيما على المسار السوري، كان هم الوزير الأميركي منصرفاً إلى الاطمئنان إلى مصير اتفاق أوسلو أولاً وأخيراً.
فهو قد سبق عرفات إلى أريحا بينام تجاهل بيروت في الجولتين. أما في دمشق فقد تصرف وكأنه يجيء لأول مرة لكي يستكشف المواقف قبل التورط في التوسط!
وإذا كانت الزيارة الأولى قد خلقت أوهاماً حول تبدل نوعي في الموقف الإسرائيلي إزاء موجبات السلام مع سوريا (واستطراداً مع لبنان)، فإن الزيارة الثانية خلقت شكوكاً جدية حول إمكان استمرار “العملية السلمية” ذاتها، وأوحت بأن مجرد العودة إلىطاولة المفاوضات في واشنطن يحتاج الآن إلى معجزة خارقة.
هل انتهى الدور الأميركي، مسقطاً معه مؤتمر مدريد؟!
هل الحرص على عدم إحراج إسحق رابين أهم لدى واشنطن من المضي قدماً في “العملية السلمية” حتى نهايتها العتيدة في إقامة سلام دائم وعادل في هذه المنطقة، التي من دونها لا تكون أي دولة كبرى قوة عظمى؟!
كل المؤشرات لا توحي باستئناف قريب لمفاوضات واشنطن، لكن أريحا لن تصير فلسطين.
وإذا كان الرهان الإسرائيلي والذي تبناه الأميركيون يقضي بالانتظار حتى تتقزم فلسطين وتندثر في المدينة الملعونة، ففي وسع العرب أن يصبروا حتى سقوط الرهان والمراهنين.
وعندها قد تتوفر الفرصة لمفاوضات من طبيعة أخرى، ولدور أميركي مختلف فعلاً ومتماسك فعلاً بحيث لا يتبرع بنقل العرض المرفوض، والذي يعرف أنه مرفوض، ولا يكفي لتبير نقله الادعاء بأنه “مجرد وسيط”.
وليس من مصلحة الولايات المتحدة الأميركية أن تعود حدودها لتتداخل مع حدود الاحتلال الإسرائيلي فوق الأرض العربية.

Exit mobile version