طلال سلمان

على الطريق العرب مثل شولتس ينتظرون الجواب من الجزائر!

خلال ثمانية شهور فقط دار الفلك دورة كاملة بالعرب، وبإسرائيل، وبكل معطيات الصراع العربي – الإسرائيلي بما في ذلك أدوار الدول الكبرى فيه، وعلى وجه الخصوص دور الولايات المتحدة الأميركية.
فبفضل انتفاضة شعب فلسطين في أرضه تغيرت معادلات وسقطت افتراضات واهتزت ثوابت، من ضمنها الزهو الإسرائيلي، بقدرة الكيان الصهيوني على تحقيق الانتصار الدائم والحاسم على العرب بمجموعهم، وبينهم بطبيعة الحال الفلسطينيون في الداخل والخارج.
وفي قمة عمان، على سبيل المثال، كان يكفي للسفير الأميركي في الأردن أن يوجه مذكرة إلى أمين عام الجامعة العربية، حتى تعتمد جمهرة الملوك والرؤساء والسلاطين العرب هذا التوجيه السامي وتلتزم بمنطقه فتاتي قراراتها والتوصيات بما يخدم الأغراض الأميركية – الإسرائيلية، على حساب شعب فلسطين والأمة العربية جمعاء.
أما اليوم، وبفضل الانتفاضة وكنتيجة لها، فإن أربع جولات لوزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية على دول “المواجهة” وبعض دول “المساندة”، بكل ما تضمنته من “اغراءات” وتهديدات ، قد انتهت إلى فشل ذريع… إلا إذا قرر العرب، وفي اللحظة الأخيرة، إنقاذ “صديقهم” جورج شولتس من المأزق، وبأن يتعهدوا، مباشرة أو مداورة، بمحاصرة الانتفاضة وخنقها في مهدها (أي في الداخل) والحيلولة دون انتشار شررها في كل الأرض العربية.
إن جورج شولتس يحاول عبثاً العثور على زبائن لتجارة بائسة: فهو أعجز من أن يعطي، ثم إن الذين يطالبهم من العرب أعجز من أن يأخذوا، وإسرائيل لا تستطيع – بالسلاح وحده – أن تشتري المستقبل والتاريخ والمصير.
لكن شولتس ما زال يحاول. إنه محكوم بالحركة، لا يستطيع أن يتوقف لأن التوقف انتحار شخصي، ثم إنه هزيمة سياسية لبلاده (وللإسرائيليين). كذلك فهو لا يستطيع أن يتقدم ، لأن الانتفاضة تسد عليه الطريق، وبؤس ما يحمله لا يصل في إغرائه إلىدفع الحكام العرب المعنيين إلى اغتيال عروشهم بأيديهم وسوء التصرف مع كرة النار الفلسطينية.
ببساطة، فإن شولتس يحاول أن يفتدي إسرائيل بالعرب، مع استرضاء شكلي للفلسطينيين، ويحاول أن يفتدي مصيره الشخصي بمصائر بعض حكامهم، عبر التلويح بالعواقب الوخيمة لمخاطر العصيان، حتى لو كان ملكياً.
ولأن الصفقة الأصلية مستحيلة، فقد انصرف جورج شولتس إلى محاولة نسف القمة العربية الجديدة، في الجزائر، وإفراغها سلفاً من أي مضمون.
فالقمة العربية تكون أميركية بموعدها وجدول أعمالها ونتائجها، أو لا تكون أبداً، فإذا أوجبت ضرورة إنقاذ المظاهر عقدها، فلا أقل من أن تنتهي بغير نتائج: يكفي أن يصدر عنها بيان عام لا يرفض المعروض، أي خطة شولتس، ولا يرفع سقف المطالب الفلسطينية بلاءات عربية جديدة.
أي إن شولتس يريد من قمة الجزائر أن تنقض بقراراتها قمة الخرطوم التي انعقدت قبل أكثر من عشرين سنة، إذا تعذر عليها أن تكمل مهمة قمة عمان!
فالقمة العربية التي جاءت بعد الهزيمة الساحقة الماحقة في 5 حزيران 1967 شكلت بلاءاتها الشهيرة نقطة تحول مهمة، إذ أوقفت الانهيار وأعادت العرب إلى ميدان الحرب، والحرب من أجل فلسطين أساساً وسائر الأمة العربية.
بينما يريد الأميركيون (والإسرائيليون طبعاً) من قمة الجزائر التي تجيء بعد انتصار مجيد حققه ويحققه الفلسطينيون داخل أرضهم، أن تنتهي بمجموعة من “النعمات” لخطة شولتس وما شابهها من مشاريع التسوية على قاعدة “السلام مقابل الأرض” أو “الأرض مقابل السلام”، يخرج العرب بنتيجتها من ميدان الحرب، من غير أن يربحوا لا أرضاً ولا سلاماً لا في فلسطين ولا في خارجها.
على إن “المجهول” حتى هذه اللحظة هو ما يريده العرب،
إن القمة تنعقد تحت راية الانتفاضة وباسمها ومن أجل دعمها… لكننا لا نعرف شيئاً عن جدول أعمالها، الذي قيل في البداية إنه من نقطة وحيدة هي الانتفاضة ثم أخذ يتوسع (سحرياً) ليستوعب مجموع المشكلات والهموم والمسائل التي تشغل أو تعني مختلف الأنظمة العربية… المختلفة!
فالعرب يذهبون إلى القمة وتسبقهم إليها خلافاتهم،
ويذهبون محاور محاور لكل محور”قضيته” الخاصة الشاغلة (حتى لا نقول اللاغية للقضايا الأخرى، وأساساً للقضية المركزية).
إن دول الجزيرة والخليج تذهب كـ “مجلس تعاون”، هاجسها اليوم، كما أمس، وغداً الحرب العراقية – الإيرانية وتداعياتها… وهو هاجس يكفي ذريعة للخروج من الحرب وسبباً لتغليب الميل نحو “السلام”، والسلام لا يكون إلا أميركياً، “مشرفاً” و”كريماً” أو إسرائيلياً مفروضاً بقوة السلاح الأميركي… وعلى سائر العرب أن يقرروا ما فيه خيرهم ونحن معهم، ويد الله مع الجماعة، والله من وراء القصد!
وهذه المجموعة قد اختارت هذه المرة أيضاً “عودة مصر” باباً للخروج من الحرب وموجباتها، وللدخول إلى عصر السلام الأيمركي.
ولقد بذلت جهود غير عادية حتى أمكن “إقناع” من يعنيهم الأمر بأن يذهبوا إلى الجزئر من غير طريق القاهرة وحسني مبارك وكامب ديفيد فيها، والاقتناع الملكي مكلف ولا بد أن يتم الحساب (وسداد الدين) في قمة الجزائر بالذات!
في المقابل فإن أقطارالمغرب قد اهتدت أخيراً إلى ضرورة التقارب وتوحيد الصفة،
هكذا وبسحر ساحر أعادت الجزائر الشعبية الاشتراكية والمملكة المغربية الشريفية العلاقات المقطوعة بينهما منذ ست عشرة سنة، واتفق على قمة ثنائية مرشحة لأن تتحول خماسية إلا إذا نسفتها ضغوط قائد ثورة الفاتح والاعتراضات السورية.
بهذا تتحول القمة إلى مرتع لمجموعة من القمم الإقليمية، لا يربط بينها رابط جدي، إذ تتتحول القضية الفلسطينية إلى موضوع وجداني أو إنساني يستثير العواطف النبيلة، ولكنه لا يحمل أحداً على تنكب سلاحه والذهاب إلى الحرب،
بل إن قضية فلسطين تتحول إلى عبء “شرق أوسطي”، بالتعبير، لا يعني إلا أهل فلسطين ومعهم سوريا ولبنان الممزق والأردن المهدد بـ “الحرب الأهلية”.
… وطالما إن السوريين والمتشددين من الفلسطينيين يرفضون الحل الأميركي الذي أعاد إلى مصر أرضها (والسلام)، فليتحملوا وحدهم عبء الحرب، أما إذا رغبوا في السلام فسائر أخوتهم العرب مستعدون لنصرتهم والطلب إلى واشنطن أن تبذل مساعيهم الحميدة في هذا المجال.
أي إن العرب في طلب السلام الأميركي وحدة واحدة.
ولكنهم إزاء خيار الحرب ثلاث مجموعات أو أربع أو خمس : أقلية محاربة لأنها “متطرفة”، وأكثرية تعمل للسلام إذا طلب إليها، أو تعود إلى همومها الجهوية والإقليمية إذا رفضت دعوتها إلى السلام الأميركي، بحجة إنها لا تستطيع أن تتحمل عبء حربين هائلتين في الوقت ذاته، ثم بعض الدول التي تسقط سهواً، في العادة، أو تعتبر كما مهملاً إلا إذا كان للأأصوات شأن فيدفع لها القادر على الدفع لتعطيه صوته وحق التقرير باسم الأكثرية،
هل هذا هو العقاب الأميركي للعرب طالما إنهم لم يقبلوا خطة شولتس بلا نقاش أو اعتراض؟!
أي إنهم إما أن يقبلوا خطة شولتس فيعترف بهم ويتم التعاطي معهم “كعرب” أي كمجموعة موحدة الكلمة، أو يرفضوها فيصيروا أشتاتاً لكلمنهم أو لكل مجموعة من بينهم رأي غير رأي الآخرين، بحيث تسقط القمة في وحدة الضياع وتنكب الانتفاضة مرتين: مرة بخسارة الموقف العربي الداعم، ومرة أخرى بتحول الموقف العربي إلى عبء على كاهلها يضاف إلى الأعباء الثقيلة الأخرى.
والحل؟!
أخشى ما يمكن خشيته أن يفتدي العرب أنفسهم بشيء من الذهب،
أي أن يقرروا للانتفاضة الدعم بحفنة من الدولارات، ويحرموها من إمكاناتهم الفعلية.
الخوف أن تجد الانتفاضة نفسها في غد قد خسرت العرب، ربما لأنهم يخافون منها مثل ما يتخافها إسرائيل والولايات المتحدة، أو ربما أكثر!
الخوف أن تتحول الانتفاضة إلى منطلق لحرب أهلية عربية – فلسطينية، بدل أن تكون، كما بشرت ولادتها وكما يوحي تطورها، منطلقاً لحرب تحرير عربية شاملة.
وعظيم أن تتوقف الحروب الأهلية الأخرى (المعلنة أو المضمرة) في مشرق الوطن العربي ومغربه،
ولكن المهم أن يتم ذلك من أجل العودة إلى فلسطين لا من أجل الخروج النهائي منها طلباً للسلام الأميركي وتجنباً للحرب مع إسرائيل ذات الذراع الأميركي الطويل.
وقمة الجزائر لا تستطيع أن تحيي عظام خطة شولتس وهي رميم،
ولكنها تستطيع أن تثبت أن العرب ما زالوا على قيد الحياة، كما تؤكد انتفاضاتهم في فلسطين.
والامتحان محدد، هل يخاف العرب من الانتفاضة أكثر مما تخيفهم إسرائيل، أم العكس؟!
والامتحان للجزائر ذاتها قبل أن يكون لسائر العرب،
ويتمنى العرب أن تكمل الجزائر ما بدأته الخرطوم، وليس أن تنجز ما عجزت عنه فاس الملكية، من قبل، ثم عمان الملكية من بعد،
والجزائر قديماً بلد المليون شهيد،
فهل تراها ما زالت أرضاً للشهادة والشهداء والكفاح المسلح ونداء التحرير العظيم… حتى بحضور أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة وسائرأسماء الله الحسنى؟!
… وعلينا، مثل جورج شولتس، أن ننتظر من الجزائر الجواب!

Exit mobile version