طلال سلمان

على الطريق العرب فرادى والهزيمة لجميعهم!

ضاقت مساحة التنفس على الجميع، وبدأ استخدام الأسلحة والأوراق السرية، واباح الأقوى لأنفسهم أن يضربوا تحت الحزام، فكل محرم حلال ومباح من أجل إنجاح المشروع الأميركي لـ “مؤتمر السلام”.
بالأمر يعلن جيمس بيكر إن المؤتمر سينعقد في هذا الشهر، ونحن الآن في منتصفه، وثمة كم هائل من المشكلات السياسية والاشكالات اللوجستية بلا حلول.
و”الدعوات” هي أقرب لأن تكون مذكرات إحضار، كأنما يراد الإتيان بالأطراف المعيين مخفورين ليتفاوضوا فيتصالحوا ويتحابوا و”يعيشوا بالثبات والنبات”…
في السياق لا بأس من بعض التصريحات القاسية النبرات، ولا بأس من بعض عمليات جس النبض أو سبر الأغوار، كأن يروج لاقتراح مرفوض بالزعم إن البعض يفكر قبوله، أو تطرح فكرة غير قابلة للتطبيق وكأنها قرار لاستدراج رد الفعل المحتمل واستيعابه الخ.
ويحتاج المتابع، هذه الأيام إلى “دليل قراءة” وإلى خبرة عريضة في مجال المناورات والتكتكات والأخبار المفخخة والتصريحات الاستفزازية الموجهة إلى الخصم لكشف خطته المخبوءة، أو الموجهة إلى “الحليف” لإحراجه فإخراجه.
بل لقد بلغ الأمر بالأميركيين أن حذروا بعض العرب من تصديق ما يقوله الإسرائيليون، بمن في ذلك كبار المسؤولين منهم، ولاسيما ما ينقلونه عنهم أو يروجون له بوصفه اتفاقاً بينهم وبين الإدارة الأميركية.
لكن هذا كله لا يخفف من مصاب العرب في أنفسهم، أولاً، وفي قضاياهم القومية المقدسة، وبالتالي في مصيرهم ومستقبلهم الذي تمنوه أفضل من حاضرهم فإذا “بشائره” تداهمهم بنذركارثة لا تبقي ولا تذر.
على إنها الحرب، مرة أخرى، وإن اختلفت الظروف والأسلحة وموازين القوى.
ولقد تعود العرب على الخسارة، وعلى فلسفتها، بل وأتقن بعضهم فن تحديد الأضرار وتخصص آخرون في العمل دائماً “لإنقاذ ما يمكن إنقاذه” باعتبار إن “لا راد لقضاء الله ولا قدرة” ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هي الحرب. فـ “مؤتمر السلام”، في المحصلة، هو نتيجة لما سبقه من هزائم عربية في مواجهة مشروع الغزو الغربي الحديث ممثلاً بإسرائيل.
الأميركيون، ومعهم السوفيات الآن، وسائر الغرب يريدونها “الحرب الأخيرة”، أو نهاية الحروب في هذه المنطقة التي تشكل الحروب والغزوات والحملات العسكرية الكبرى معظم تاريخها منذ ما قبل التاريخز
وهذا مطلب إسرائيلي حتى لو لم تتطابق مواصفاته مع طموحات المشروع الإمبراطوري الخارج على شروط “النظام العالمي الجديد” المعقود اللواء للرئيس الأميركي جورج بوش.
لكن العرب أعجز من أن يرفضوا، والأبأس أنهم – بمجملهم – لا يدركون إنهم أقوى من أن يذعنوا لما لا مجال لقبوله لمن يحرص على غده، كائناً ما كان هذا الغد.
ربما لهذا يهرب “العرب” من مواجهة أنفسهم، ومن التلاقي للتفاهم على الحد الأدنى… وفي حين يمد بعضهم يده إلى شامير فإنه يرفض التنسيق، مجرد التنسيق مع المتضررين مثله من أي لقاء منفرد مع رمز التصلب الإسرائيليز
القمة العربية مستحيلة، اللقاء على مستوى وزراء الخارجية، وفي إطار الجامعة العربية، متعذر. وأي اجتماع موسع ممنوع، وبالأمر الأميركي الصريح.
جيمس بيكر هو الذي يقرر لكل عربي ليس فقط مقعده ودوره في المؤتمر، بل كذلك إطار علاقته بسائر أخوانه، لاسيما أولئك الذين يشتركون (معه) ويواجهون (معه) المخاطر ذاتها في المؤتمر وعبره.
بين كل عربي وعربي أميركي ظاهر وإسرائيلي كامن يمنعان التواصل،
هو بين المصري والسوري،يحاول ضبط خطى القاهرة المكبلة بقيود كمب ديفيد حتى لا تذهب أبعد مما يجب فتعزز صمود دمشق،
وهو بين المصري والأردني، يمنعهما من تجاوز الحقبة السوداء التي رافقت حرب الخليج وأعقبتها، والتي كان بين “تجلياتها” البارزة “الكتاب الأبيض” الأردني والمذكرة المصرية القاسية في الرد عليه،
وهو بين الفلسطيني والسوري، يمني الفلسطيني بقليل من الأوهام ليسحبه بعيداً عن حقائق حياته، ويزور له الموقف السوري فيصوره تخلياً عنه بقصد الانتفاع من نكبته الجديدة.
وهو بين الفلسطيني والفلسطيني، يغازل أهل الداخل ليباعد بينهم وبين أهل الخارج، ويخدر جماعة المنظمة ليسلموا بدورهم لمن يختارهم الملك، ثم يفرض هو على الملك من يقبل بهم الإسرائيلي كممثلين “للإدارة المدنية” تحت حكم الاحتلال.
الهزيمة يتيمة، أما المهزوم فيقهر بعد اليتم بأن يبقى وحيداً وأعزل.
ممنوع التلاقي بين العرب، وممنوع التنسيق حتى في مجال تحديد الخسائر.
على كل عربي أن يأتي وحده فيعلن استسلامه ويوقع على صلك يلزم الأجيال العربية الآتية في مختلف أرجاء هذا الوطن الهائل الامتداد.
لكن اختراق الأمر الأميركي ممكن، بعد، ومخالفته أقل كلفة من إطاعته.
وها هي دمشق تدعو إلى لقاء الأطراف العرب المعنيين فيها، في محاولة متعجلة للتنسيق، ولو في اللحظات الأخيرة السابقة على المواجهة الأصعب في التاريخ العربي المعاصر.
وليست الآمال عراضا في نتائج هذا اللقاء، خصوصاً وإن بعض هذه الأطراف قد ألزم نفسه، مسبقاً، بما لا يمكن النكوص عنه… لكنه يظل أفضل من جو التباعد إلى حد القطيعة، وهو ما كان سائد بالأمر الأميركي، أو ربما بطلب الرضا الأميركي (والإسرائيلي ضمناً) حتى اليوم.
لقد منع الأمر الأميركي، والواقع العربي الذي أوصلته إلى الدرك الأسفل تلك المغامرة البائسة لصدام حسين في الكويت، مقدمة للرئيس الأميركي نصراً تاريخياً مذهلاً على العالم كله عبر العرب وبجثث ضحاياهم الفقراء وأموال أغنيائهم المكنوزة،
… منع هذا وذاك العرب من التلاقي جميعهم لاتخاذ القرار “الممكن” والذي لا مهرب منه في ضوء توازن القوى وواقع أوضاعهم البائسة،
كان العرب يشكون من تعاظم عدد دولهم الضعيفة والممزقة والهشة والتي لا مبرر لغالبيتها في الوجود،
أما اليوم فهم يفتقدون حتى العدد… فما أكثرهم في أيام الرخاء وما أقلهم في زمن المحنة.
وإذا كان بعض الخليجيين قد بالغ في إظهار حماسته لمؤتمر لا يمكن أن يأتي بالخير للعرب، فأعلن مشاركته وسمى مندوبه واعد خطابه لهذه المناسبة السعيدة، فإن أهل المغرب عموماً (ليبيا وتونس والجزائر والمغرب)، كانوا أرصن وأكثر مسؤولية وهم يربطون موقفهم بإرادة الأطراف المعنيين (وسوريا أساساً)، فإن طلبوا منهم الحضور حضروا وشاركوا بما يخدم أخوانهم المنكوبين والمحاصرين بالأمر الأميركي والتفوق الإسرائيلي ومخازي الوضع العربي المنهار.
وجولة نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام على هذه الدول تأتي تعويضاً عن مشاركتها المباشرة في اللقاء، وإن كانت ستحمل أجوبتها المعززة لاحتمالات الحد الأدنى من الصمود… العربي.
يقول إسحق شامير في بعض تصريحاته الأخيرة إن إسرائيل هي نصف الشرق الأوسط… وهذا يتجاوز العرب ليشمل الأتراك والإيرانيين، ولعله يشمل أيضاً عموم المسلمين!
أما جيمس بيكر فيتصرف وكأن الولايات المتحدة هي كل العالم،
لكن لا تلك ولا هذه من الحقائق المنزلة والثابتة والنهائية.
ويعلمنا التاريخ إن بعض القوى قد تمكنت في فترة معينة من الهيمنة وإخضاع معظم الشعوب لإرادتها وتحكمت بأقدارها، لكنها لم تستطع إلغاء الجغرافيا والثقافة والوجدان والذاكرة والأهم الإرادة، لاسيما إرادة الذين لم تسحقهم الهزيمة ولم تدمرهم الخيبة والمرارة واليأس المطلق من أي كانز
المهم أن يتلاقى العرب، أو معظمهم، أو بعضهم، فكلما شمل التنسيق عدداً أكبرمنهم نقصت التنازلات المحتملة.
فالمستوحد أو المستفرد هو الأكثر استعداداً لأن يستنقذ نفسهبالتنازل عما يملكه غيره،
والمهم ألا يُترك أحد مستفرداً، حتى لو رغب في ذلك، ليكون استفراده عذراً له في تفريطه.
والأهم ألا يخسر العرب في حرب “السلام” الأميركي ما لم تستطع أن تفرضه إسرائيل عليهم في مسلسل الحروب التي تشكل كل تاريخها معهم منذ أربع وأربعين سنة وحتى اليوم.
والأهم الأهم: أن يستبقي العرب لأجيالهم الآتية بعض ما يجعل الحياة جديرة بأن تعاش، فلا يقفل أمامهم باب المستقبل بالهزيمة وكأنها قدر العربي منذ الأزل وإلى الأبد.
فالعرب فرادى، الآن، لكن الهزيمة لجميعهم، الآن وإلى دهر الداهرين، آمين.

Exit mobile version