طلال سلمان

على الطريق العدل لا الانتقام، الفاسدون لا العينة!

بين اللبنانيين وبين نظامهم السياسي القائم “ود مفقود” وهم لا يقبولنه ويحفظونه إلا حين يمتد بهم التفكير إلى البدائل المحتملة التي يمكن أن تجيئهم على أنقاضه!
من هنا إقبالهم على التىشهير به كلما تبدت نقيصة من نقائصه أو سقط القناع وسقطت معه الحماية عن بعض “أبنائه” فانكشف الخلل مدوياً بأجراس الفضيحة.
مع الفضيحة، وقبل أن يفترضها الناس مقتلاً، يلجأ النظام إلى ذريعته التقليدية الجاهزة: لقد تجاوز الحد فانتهى، وأنا من أسقطه لا أنتم، ولو شئت التستر عليه لما طالته أيديكم!
ولأن الناس باتوا عارفين بقواعد اللعبة ومتمكنين منها فهم يبادرون إلى “محاسبة” النظام فوراً: – لماذا هذا المسكين وحده؟! أيها الآخرون المثله؟!
فالناس يعرفون القاعدة الذهبية التي تفرض على النظام أن يضحي ببعض “زوائده” بين الحين والآخر، لكي يشتري لنفسه شيئاً من “حسن السيرة والسلوك” أو ربما لكي يجدد خلاياه ويضمن استمراريته.
-لماذا وحده؟! أين الباقون ومعظمهم أخطر منه؟!
هل استضعفتموه فوصفتموه؟! طيب، لكن هذا لن يغير رأينا في هذا النظام الفاسد، بل إنه سيزيدنا اقتناعاً بفساده وبضرورة التغيير!!
أما والتغيير في مستوى الاستحالة فما هم النظام من تأفف المحبطين ومن تذمر العاجزين والهاربين إلى أحلامهم الكسيحة والتي يتنصلون منها مع أول عرض سخي يجيئهم من نظام الفساد والإفساد؟!
سوء النية متبادل بطبيعة الحال.. فالنظام بدوره لا يطمئن إلى إخلاص الرعية، ولذا يلجأ إلى الاحتياطي الاستراتيجي من أسلحته: الطائفية أو المذهبية أو الجهوية أو جميعها معاً.
هكذا وبرمشة عين يتحول الجلاد إلى ضحية:
-طبعاً، لو أن طائفته كانت أقوى لما جرؤ أحد على أن يمد إليه يده بالسوء!
-.. ولو أنه من “المركز”، أي من الصنف الممتاز، لكان قد ارتفع إلى مرتبة المرشحين للرئاسات، أو لربما غدا رئيساً،
حتى الجريمة في لبنان يمكن أن تتحول إلى شهادة في الكفاءة العالية.
أما الاحتكار والنهب والإثراء غير المشروع والتهريب والتزوير واستغلال النفوذ والمخدرات وتوسل الأعراض لتحقيق الأغراض، فإن ذلك كله شرعي ومشروع طالما راعى “قانون السوق” ولم يخرج عليه، بمعنى ألا يجرب “الصغير” أن يبتلع “الكبير” أو يلغيه، وألا يحاول “المتبدئ” أن يخلص من “المجرب” قبل الأوان الخ…
إن اللبنانيين ، اليوم، في حالة تشبه تلك التي كان عليها “الضحايا” في “الملاعب” الرومانية القديمة: كلما سألهم القيصر رأيهم طالبوا بالدم وحكموا بالإعدام!
لا أحد فوق الشبهات،
“كل كتابه بيمينه”، والكتاب يقود إلى أشد العقاب، لكن “الظروف” تقوده إلى أعلى المناصب.
من التالي؟! هذا وحده لا يكفي؟! إذا حوكم وحده فهذه عدالة منقوصة. لماذا لا تجيئون بالآخرين إلى القاضي فيدينهم جميعاً بالجريمة نفسها، وهم في الأصل شركاء فيها، ويحكم عليهم بالعقوبة نفسها؟!
أين الحد بين عقوبتين والجرم واحد؟!
“الظلم بالسوية عدل في الرعية”،
والناس يرفضون العدالة المنقوصة ، إنها تثير شيئاً من الاشفاق غير المبرر تجاه “المجرم المستفرد.
إن الناس يطلبون، عبر إدانة تلك الطبقة أو الفئة من “الباغين” تبرئة أنفسهم.
هم يرفضون “العينة” في هذا المجال.
إنهم يعرفون الحقيقة، وبالتالي فلن يصدمهم أن يروا “الكبراء” يتدلون من المشانق!
إنهم يعرفون أن قلة قليلة من أغنيثائهم إنما جنوا أموالهم بالجهد والإنتاج وعرق الجبين، في حين أن الأكثرية قد أثرت وحققت أرباحاً طائلة من جهدهم وبعرقهم هم وعلى حسابهم هم وحساب أبنائهم وأحفادهم،
وهم يعرفون أن معظم “زعامات الحرب” لم تصل إلى مواقعها بالانتخاب الحر، وإنما بقوة السلاح والغريزة الطائفية والحساسيات المذهبية والظروف الخارجية.
لذلك لا يشفقون على أية “زعامة” تسقطها التحولات وتصادم الإرادات، ولكنهم يطلبون أو (أقله) يتمنون المصير نفسه للباقين،
يريدون أن تجيء لحظة الحقيقة لاستعادة اعتبارهم ، هم ، الناس، ولكي يكون لهم راي في شؤونهم،
يريدون أن يعيشوا حالة السلم الأهلي بإسقاط ما هو استثنائي ومفروض بقوة الحرب، أو خوفاً من الحرب، والعودة إلى ما هو طبيعي… وهم يفترضون أنهم قد استعادوا، مع السلم، حقهم في أن يختاروا قياداتهم و”زعاماتهم”،
وهم حين “يسقط” أي واحد من “الكبراء” يفرحون لأنهم يتصورون أن “الخطة الحقيقية” قد حانت، فإذا ما اقتصر السقوط على “واحد” فقد استشعروا غصة سرعان ما تتحول على إحساس عميق بأنهم إنما يُخدعون، وإن الصراع خارجهم قد أودى بواحد من المتصارعين ولا علاقة لهم بالأمر، وإن ثمة طرفاً قد صار أكثر قوة… عليهم، بإزاحته بعض منافسيه!
إنهم يريدون أن تكون كلمتهم العامل الأساسي في إسقاط من يجب أن يسقط وفي رفع من يستحق الارتفاع إلى السدة،
لذلك، ومن خلال غربتهم عن القرار، تكون ردة فعلهم أقرب إلى “التعاطف” مع الجلاد الذي صار ضحية منه إلى تقدير القرار بإسقاط هذا أو ذاك من المسقطين الجلادين.
لا أحد فوق الشبهات. لا أحد حيث يستحق فعلاً أن يكون. والاستنثائي يتكرس ليحل نهائياً محل الطبيعي، والناس دائماً خارج القرار.
كيف يدخل الناس إلى النظام وهو يجعلهم دائماً خارج قراره، بينما يحاول إيهامهم بأنه إنما يعمل لأجلهم ويزعم أنه إنما يتخذ قراراته باسمهم؟!
إن إدانة بعض أهل النظام لا تبرئ الآخرين، ولا تبرئ بأي حال أو تعطي شهادة حسن سلوك للنظام ومن تبقى من أهله!
والناس واثقون من أن من سقط أو أسقط وقد يدان يستحق الإدانة،
هذا أمر لا يجادل فيه أحد،
وهم حتى وهم يطالبون بادانة الباقين لا يطلبون البراءة، ولا يتشككون في صحة اتهام من “سقطت ورقته”، ولكنهم يرديون أن تقول العدالة كلنتها ورأيها فيهم جميعاً، ويرفضون أن يفتدي المجموع أنفسهم ببعض الأغبياء أو سيئي الحظ.
الناس يطلبون لأنفسهم دوراً.
الناس يطلبون أن تسمع كلمتهم، لا أن يطالبوا بأن ينتظروا دائماً خلف المذياع!
الناس يطلبون العدالة لا الانتقام.
فحساب الانتقام لا ينتهي، كما أنه قد يفتح الباب لريح سموم جديدة، وقد يزرع أحقاداً تحصدها الأجيال الآتية، وهي لا ذنب لها فيها،
أما العدالة فتنهي حال شاذة، وتعالج الأحقاد بإدانة الظلم والظالمين، وتفتح الباب للجمهورية الثانية العتيدة، الجمهورية التي يحلم الناس بأن تكون لها صلة حقيقية بالديموقراطية.
ولا ديموقراطية بلا عدالة.
أما “النظام” فيمكن دائماً أن يقوم من غيرهما، وغالباً على حسابهما.

Exit mobile version