طلال سلمان

على الطريق العائدون لتبقى إسرائيل والخارجون لتعود مصر…

في الأخبار المعلنة والمعممة، بوسائل مختلفة رسمية وغير رسمية، إن السلطات المصرية قد اكتشفت أن خالد جمال عبد الناصر هو الرأس أو العقل المدبر لتنظيم “ثورة مصر” الذي اتهم بتدبير أو بتنفيذ سلسلة من العمليات الانتقامية ضد بعض من رجال المخابرات الإسرائيلية والأميركية في القاهرة وأنحاء أخرى من أرض الكنانة كانوا يعيثون فيها فساداً،
ولحكمة ما، اختارت السلطات في مصر وارتضى زميلنا الكبير أحمد بهاء الدين أن يكون “مصدراً موثوقاً” لتأكيد “تورط” خالد جمال عبد الناصر في قيادة هذا التنظيم الموسوم “بالإرهابي”، والذي شارك في “مطاردته” وجمع المعلومات عنه وتنسيقها ثم تقديمها إلى السلطات المصرية العديد من أجهزة المخابرات الغربية، مع دور متميز للمخابرات البريطانية ومعها بالطبع الإسرائيلية والأميركية.
فالتنظيم كما يتحدثون عنه في القاهرة والعواصم الحريصة على سلامة النظام المصري ونهجه الراهن، كامتداد لنهج السادات ومكمل “لرسالته”، هو الأقوى والأعظم فعالية بين كل ما “كشف” من تنظيمات مناهضة للنظام، خصوصاً وإنه كان نجح في “اختراق” الجيش كمؤسسة وأجهزته الأمنية الحساسة (من هنا توقيف عشرات من العسكريين وتسريح مجموعة كبيرة من الضباط وتجميد العديد من كادرات جهاز المخابرات المشهود لهم بالكفاءة والفعالية).
والتنظيم، كما يتحدثون عنه في القاهرة، كان مرشحاً لأن يكونم مركز استقطاب لواحد من أوسع التيارات الجماهيرية في مصر وهو التيار الناصري، وبالتالي “نواة” قوة التغيير الأخرى (باعتبار إن القوة الأولى تتمثل في من يطلق عليهم تعبير “الأصوليين” أو “الإسلاميين” ويدمغون فوراً بالتبعية لإيران وللخميني وكأنما لم يكن في مصر مسلمون قبل ظهور الخميني ووصوله إلى السلطة في طهران)!!
أما في الأخبار غير المعلنة رسمياً والتي يراد تعميمها، فثمة ما يفيد أن الرئيس حسني مبارك قد تدخل شخصياً مرتين “لحماية” خالد جمال عبد الناصر: الأولى حين نصحه بمغادرة مصر، بعدما كشف التحقيق دوره في قيادة تنظيم “ثورة مصر”، وحين أمن له فعلاً فرصة السفر حرصاً على سمعة جمال عبد الناصر وكرامة أهل بيته، والثانية حين استخدم نفوذ الرئاسة وموقعها وقرارها “المقدس” ليوفر لخالد الأسباب التخفيفية فلا يحاسب حساب المجرمين أو المتآمرين على النظام وسلامة البلاد!
ويزيد رواة مثل هذه الأخبار فيقولون: إن حسني مبارك، وبرغم أن التحقيق كان قد كشف تورط خالد، قد التزم بالزيارة التقليدية لضريح جمال عبد الناصر في ذكرى رحيله (28 أيلول)، وإنه هناك طمأن أرملة القائد الراحل بأنه سيكون حريصاً على خالد حرصه على ولده… وهكذا كان!
لكن “المصادفات” موجعة إلى حد إنه لا يكفي الصمت تعبيراً عن الألم،
و”المفارقات” قاسية إلى حد إن صراخ الاحتجاج لا ينفع كثيراً في التخفيف من وقع دلالاتها الثقيلة على النفس وعلى التاريخ!
*ففي الزمان عينه، تقريباً، كان حكام العرب ينجزون ترتيبات عودتهم إلى مصر، ويزدحمون على أبواب حسني مبارك طالبين عفوه ورضاه عن فعلتهم قبل عشر سنوات حين “اقتلعوا” الجامعة العربية من القاهرة، وطردوا مصر من عضويتها ونبذوها لأن رئيسها السابق (المقتول) قد خرج على إرادة الأمة فذهب إلى العدو بغير قيد أو شروط ووقع معه معاهدة الصلح المنفرد وفتح له الباب المرصود، وفرش له دماء آلاف الشهداء “المصريين” سجادة حمراء على طول الطريق بين القاهرة والقدس المحتلة!
كان الحكام في عمان ينطلقون منها زحفاً في اتجاه القاهرة (التي ما زال يرفرف في سمائها علم العدو الإسرائيلي)، في حين كان مصطفى خليل، نائب حسني مبارك في رياسة “الحزب الوطني” الحاكم يشرب الأنخاب مع شامير ومع بيريز تحية للذكرى السعيدة: ذكرى مرور عشر سنوات على زيارة أنور السادات للوجه المظلم من التاريخ!
*في القاهرة كانت، وما تزال تدور، رحى معركة هائلة الشراسة بين “المصاروة”، وبين الوافد الغريب، الذي كان وبقي وسيبقى عدواً، يحاول أن يقتحم عليهم دنياهم، حياتهم، ذكرياتهم، طموحاتهم وأحلامهم، فيطاردونه ويطردونه كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً،
*وفي القدس المحتلة كانوا وما زالوا يشكون من “المخربين” و”أعداء عملية السلام” داخل مؤسسة الحكم في مصر، من الرئاسة إلى الخارجية إلى المخابرات إلى الجيش إلى الأعلام والصحافة، وأساساً من رجل الشارع، أي من “ابن البلد” وحركة الرفض الشرس لعملية التطبيع وللحضور الإسرائيلي بأشكاله كافة، بدءاً بمعرض الكتاب وانتهاء بالمؤسسات الشعبية والتنظيمات النقابية والهيئات الدينية، والمسيحية منها قبل الإسلامية.
** أما الأنظمة العربية فكانت تبحث عن ذريعة للولوج إلى كامب ديفيد وتجاوز مفاعيل معاهدة الصلح المنفرد، وتثبيت النظام المصري حيث تركه السادات بإنجازه التاريخي العظيم ممثلاً بكسره للحاجز النفسي بين العرب والكيان الصهيوني.
… ولقد وجدت هذه الأنظمة طريقها عبر غياهب الحرب العراقية – الإيرانية، التي يكاد المرء الآن، وفي ضوء النتائج والتداعيات المنطقية، يرى وكأنها قد شنت أصلاً من أجل مثل هذه الغاية أو ما هو أدهى!
وبغير أي رغبة في الدفاع عن الطروحات والمواقف الإيرانية المتعنتة والتي تفتقد غالباً النصير والحليف العربي حتى في أوساط المعترضين على نهج النظام العراقي، فإن اندفاع دول الخليج نحو مصر المكبلة بأغلال كامب ديفيد كان أشبه بالهرب من هزيمة محتملة نحو هزيمة أكيدة، وكان دفاعاً يائساً لجأت غليه أنظمة لا تحب شعوبها وتعرف إن شعوبها لا تحبها، لكي تحمي نفسها على حساب حريات شعوبها وثرواتها وسلامة أراضيها، ناهيك بمعان “بائدة” مثل الكرامة والعزة والتحرر الوطني والقومي والتقدم الاجتماعي.
خالد جمال عبد الناصر هو الآن خارج مصر، إذن، وهو متهم بممارسة الإرهاب وتهديد سلامة البلاد ونظامها، وما أسهل أن تضاف أيضاً تهمة التخابر مع دولة أو دول أجنبية مثل الجماهيرية العربية الليبية أو سوريا،
صار وجود رجال المخابرات الإسرائيلية في مصر مبرراً ومشروعاً ومصدراً للأمان وضماناً لاستمرار عملية السلام!!
وصار الوجود الأميركي (على شكل قواعد عسكرية أو محطات تصنت أو أوكار مخابرات يشمل مدى حركتها المنطقة كلها) مصدراً للحماية وللأمن الغذائي والرفاه الاجتماعي (بفعل الدولار السحري)،
وصارت الأنظمة العربية التي طالما قاتلت في مصر قوميتها وعروبتها ودورها القيادي الرائد، تتزاحم في العودة إلى القاهرة المهيضة الجناح الآن، المسلوبة الإرادة، الأسيرة، المخرجة من عروبتها والممنوعة من استعادتها أو العودة إليها… والكل يعود بذريعة حماية عروبة مصر وتوفير مستلزمات المعركة القومية!
يذبحون مصر، والمصريين، ألف مرة في اليوم، ثم يهرولون إلى القاهرة المرتهنة في كامب ديفيد بحجة الاحتماء من الخطر الإيراني!
لا هم قاتلوا في مصر أو معها أو دفاعاً عنها،
ولا هم قاتلوا في فلسطين أو معها أو دفاعاً عنها، بل إنهم قاتلوا ثورتها حتى أجهضوها وصادروا “الغطرة والعقال” لتأمين شاهد زور إلى جانبهم في انحرافهم وتفريطهم بالأرض وكرامة الأمة ومقدساتها، بما في ذلك المسجد الأقصى!
ولا هم قاتلوا العدو الإسرائيلي، ولا هم يريدون قتاله لا في غد ولا بعد ألف عام حتى لو احتل الأرض العريبة كلها،
بل إنهم لم يقاتلوا ولا هم يريدون أن يقاتلوا “الخطر الإيراني” الداهم،
ولكنهم يريدون الصلح الأميركي مع العدو الإسرائيلي، والصلح الأميركي مع “الخطر الإيراني”، والمساندة الأميركية لهم في معركتهم ضد شعوبهم.
لسنا قضاة لنحكم بالبراءة، سلفاً، على خالد جمال عبد الناصر،
لكننا نعرف إن الأمر ليس “أمنياً” وليس “فنياً”، وإن المحكمة بما هي قوس وقضاة ونيابة عامة الخ ليست بأي حال المرجع الصالح لإصدار أحكام على التيارات والاتجاهات السياسية ووسائل تعبير الشعب عن إرادته.
نعرف – بسذاجتنا التي لن نهجرها حتى لو مزقنا نتفاً – إن إسرائيل كانت وما زالت وستبقى العدو القومي لأمتنا، ومصر منها في الطليعة.
ونعرف – بسذاجتنا كما بالوقائع – أن شعب مصر يقاوم الاحتلال الإسرائيلي والأميركي لإرادته، كما قاوم من قبل الاحتلال الإسرائيلي، لأرضه،
ونعرف إن حكام العرب لا يذهبون إلى القاهرة للمشاركة في تحريرها،
بل لعل عودتهم ستؤخر تحررها، لأنها ستوظف قطعاً ضد عروبتها وضد نضالها لتمزيق معاهدة الذل، وبين مظهره رفض التطبيع والاعتراض، بكل الوسائل المتاحة، على الوجود الإسرائيلي فيها،
ونعرف إن عودتهم ستوسع الطريق أمام الراغبين في معاهدة صلح منفرد أخرى،
… وإن هذه العودة ستضرب حتى احتمالات عقد مؤتمر دولي، إذ طالما يصالح حكام العرب بغير مفاوضات فلماذا المؤتمر الدولي؟!
… وطالما إن حكام العرب يتولون بأيديهم مباشرة الإجهاز على القضية الفلسطينية فأين هو موضوع الصراع العربي – الإسرائيلي وما الحاجة إلى عقد مؤتمر لا موضوع له؟!
خالد جمال عبد الناصر هو الآن خارج مصر،
ومصر هي، بالتأكيد، خارج هؤلاء العائدين إليها الآن،
ومصر هي، بالتأكيد، خارج كامب ديفيد،
مصر هي الآن خارج مصر،
والذاهبون إليها، الآن، يريدون ويعملون مع الأميركيين والإسرائيليين لضمان عدم عودة مصر إلى مصر، أي عدم عودة الروح إلى الأمة العربية المقهورة بالهزيمتين وبصناع الهزيمتين،
وقد يكون حسني مبارك متسامحاً مع خالد جمال عبد الناصر،
لكن المسلم بكامب ديفيد، والمستقوي على العرب به كما بحكامهم المهزومين، لا يحق له التباهي بأنه من على خالد جمال عبد الناصر بحريته الشخصية في حين تبقى مصر كلها أسيرة العدو ورهينته ومعها إرادة الأمة.
وحتى إذا ما سلمنا جدلاً بأن حسني مبارك حسن النية ولكنه ضعيف كما يقول عنه الجميع، بمن في ذلك زميلنا الكبير أحمد بهاء الدين، فإن حسن النية لا يبرر الجرائم العادية فكيف بالأخطاء السياسية المدمرة.
ولن تكون “القاهرة” تلك المدينة التي يزدحم فيها الأميركيون والإسرائيليون وعرب الأميركان ويخرج منها (مطروداً ومطارداً) خالد جمال عبد الناصر لأنه أرادها عاصمة للعرب وقلعة لحريتهم وسيفا يمانياً في معركتهم من أجل كرامتهم.
وسيكون على القاهرة، مرة أخرى، أن تنتظر “عودة الروح”.

Exit mobile version