طلال سلمان

على الطريق الطائف اليمني… هاشمي!

القصور الملكية أكثر إراحة للمناضلين المتعبين من مكاتبهم البسيطة الرياش والمشددة حراساتها.
والآداب الملكية تفرض خفض الصوت والاختصار في الكلام بالتركيز على الموضوع الأصلي، فالوقت الملكي أعز من أن يضيع في التفاصيل واثمن من أن يهدر في لقاءات للجدل البيزنطي حول النوايا.
وقصر رغدان في عمان الهاشمية اتسع لما ضاقت به جنبات “اليمنين” من خلافات واختلافات وسوء تقدير أو سوء نية أو سوء فهم أو سوء إدارة لعملية الوحدة.
… الوحدة التي أثبتت التجربة الجديدة حقيقتها الأصلية وهي أنها لا تفيد أبداً كمهرب أو كمخرج نجاة أو كمحاولة متذاكية للتهرب من معالجة مشكلة قائمة، بل هي تكون وتفرض ذاتها كضرورة وكهدف مقصود لذاته وباعتبارها الحل الفعلي والواقعي لمعضلات اجتماعية – اقتصادية – سياسية يعيشها الناس أو لا تكون أبداً.
وحولها تحلق الشعب اليمني حتى قبل تحقيقها، ومن أجلها ناضل بكل قواه وأجبر أخيراً المختلفين على اللقاء ولو خارج اليمن نفسه.
ومع تمني النجاح لهذا اللقاء الفريد في بابه بين يمنيي الشمال ويمنيي الجنوب، ومن بين هؤلاء وأولئك، فلا بد من التنويه بمجموعة من المفارقات والطرائف الملفتة التي يتضمنها مسرح العملية أو هي تحيط به.
*أولى المفارقات أن اليمنيين المزهوين عادة بذكائهم والذين لا ينقصهم التعصب ليمنهم السعيد، والمتباهين دائماً بأن “الحكمة يمانية” قد سقطوا في امتحان الانتقال من القبيلة إلى الدولة… وكان السقوط شاملاً لا فرق فيه بين ماركسي ويميني، بين متدين و”علماني”، بين مثقف وجاهل.
إن السلطة تكشف معادن الرجال. ولقد كشف الصراع على السلطة في اليمن أن أهل الحكم أعجز من أن يحملوا الراية المشرفة التي أظلتهم ذات يوم، لأن أحقادهم وصغائرهم وذاتيتهم أعظم تأثيراً بما لا يقاس من الشعارات والأهداف التي نادوا بها ومن الدور التاريخي الذي رشحتهم للعبه المقادير!
على أن بين ما يذكر لهم أنهم ما زالوا يحاولون اقتسام البيضة من غير أن يكسروها.
والمهم أن يكونوا قد جاؤوا ليتفقوا فعلاً، لا لكي يُشهد كل منهم “العالم” على أن “الآخر” هو الانفصالي وهو الرافض للعهد والاتفاق ولو على قاعدة “منا أكير ومنكم وزير”.
لعل الكل قد أدرك أن الطوفان، لو وقع “سيجرف الجميع” وأن الدماء التي قد تسيل مرشحة لأن تغطي وجوه الرجال جميعاً المتمترسين الآن في حصون الحكم ومؤسساته من القبيلة إلى الجيش إلى “المجاهدين” المعزز إيمانهم بكثير من السلاح الثقيل.
*المفارقة الثانية “لبنانية” إلى حد كبير.
فمن الطائف السعودية إلى عمان الهاشمية يبدو وكأن “الملكيين” هم الأنجح في إصلاح ذات البين بين “الجمهوريين” العرب، سواء كانت “الجمهورية” ديمقراطية اشتراكية أم ليبرالية غربية وذات نظام اقتصاد حر إلى حد الفوضى!
وإذا كانت هذه ملاحظة عارضة بالنسبة للبنان الجمهوري أصلاً، منذ ابتداع كيانه السياسي، فإنها مع اليمن الخارجة من “الإمامة” الملكية وعليها وبالثورة الشعبية، تغدو أمراً يستحق وقفة تأمل متأنية…
ومع أنه لم يعرف عن الملكيات حرصها على الجمهوريين فإن الخبرات المترسبة نتيجة للتجارب المرة في خوض الحروب الأهلية قد تكون ذات فائدة لمن يريد تفاديها.
بهذا المعنى فإن صورة اللقاء اليمني في قصر رغدان تضم حشداً من أشهر الأبطال في تاريخ الحروب الأهلية العربية، بل إن المدينة التي يعقد فيها اللقاء الملكي ما تزال تحمل آثار ندوب خلفتها الحرب الأهلية (أيلول الأسود 1970) بين راعي الاحتفال وبين “الشاهد” الأول عليه ياسر عرفات.
إنه منظر نادر.
الحضور جميعاً وصلوا لتوهم آتين من الجحيم، والفواجع ما تزال مشاهدها حية في الذاكرة المجهدة باستحالة النسيان.
الملك و”الرئيس” الشاهد و”الرؤساء” اليمنيون، وكذلك ممثل سلطنة عمان الذي انتقل من الخندق إلى وزارة السلطان الذي كان يقاتله باسم الثورة الشعبية من أجل التحرير.
أما الأمين العام لجامعة الدول العربية فلقد طالما كان مجرد ضيف شرف في حفل الختام وتوزيع جوائز المناصب على المحتربين…
الغائبان الوحيدان، وبعذر شرعي، عن هذا الاحتفال الفخم هما الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين وكارل ماركس…
لكن غيابهما لا ينقض الحقيقة التي يجسدها اللقاء وهي أن الشيوعية كالقبلية يمكن أن تنتهي عند الأعتاب الملكية.
والتجربة المرة لم توضح الحدود بين الجمهورية العشائرية وبين الماركسية القبلية… لكأنما شبح “الإمام” فيهما جميعاً، بل لعه قد استرد عبر تجربتهما البائسة اعتباره!
لنعد إلى القراءة اللبنانية لاتفاق عمان اليمني.
فإذا نحن استبدلنا الطوائف بالقبائل يبدو لقاء عمان نسخة هاشمية من اتفاق الطائف السعودية حول لبنان.
إنها قضية السلطة وكيف يتوزعها ويتقاسمها الأخوة – الأعداء، ويمتنعون بذلك عن الحرب حتى لا تذهب بها وبهم!
كل حصة لكل قبيلة – طائفة، أو لكل طائفة – قبيلة، بما في ذلك الجيش والحزب والمؤسسة شبه الدينية.
وكما أنتج الطائف “ترويكا” لبنانية فنقل الحرب من الشارع إلى قمة السلطة، يحاول لقاء عمان أن يمنع نزول الحرب في اليمن من قمة السلطة إلى الشارع.
ومثل لبنان سيكون الرؤساء الثلاثة مجتمعين هم “الحكم”، لا ينفرد واحدهم بقرار، ولا يملك وحده حق الأمرة على الجيش أو على … بيت المال!
لكن السؤال : هل يستطيع الملك حسين أن يكون مثل الرئيس حافظ الأسد “الحكم” و”المرجعية الأخيرة” للفصل بين “ثلاثة من بيئات مختلفة وثقافات مختلفة”، لا يمكن أن يتفقوا كلياً في حين أنه يمتنع عليهم أن يختلفوا على حد الاقتتال.
إنها، الآن، وحدة بالخوف من الحرب.
ومن قبل كان نظام عدن “الماركسي” يعيش على حافة الحرب خوفاً من الوحدة، وكان نظام صنعاء يخاف من الحزب على السلطة، وها هو الآن يستغل خوف الجنوبيين على سلطتهم ليحجم الحزب.
ومفارقة أخرى لعلها الأهم: هذه أول تجربة وحدودية عربية تحظى بمثل الرعاية لاأميركية والغربية المعلنة التي حمت حتى اليوم “وحدة اليمن”.
لكأنها ضرورة غربية، هذه الوحدة التي حمل بناتها السلاح أو الشعارات ضد الهيمنة الأميركية أو الوجود الأميركي المباشر في المنطقة.
لقد قالت واشنطن بصراحة: ممنوع الانفاصل!
برغم ، “حليفها الإقليمي” السعودية، قال منذ اللحظة الأولى: ممنوعة الوحدة بين الشطرين.
سيمضي بعض الوقت قبل أن تشهد الأرض لوثيقة العهد والاتفاق وموقعيها والشهود.
والوقت ضروري لكي يتم فك الاستنفاروانسحاب الجيوش المتقابلة بالسلاح، في المدن كما على الحدود وتقاطع الطرق.
والأهم أن يتم تنفيس الاحتقان، وأن يستعيد اليمنيون شيئاً من حياتهم الطبيعية.
والمرجع أن ينتهي الأمر بنوع من الفيدرالية، بغض النظر عن التسميات، بحيث يبقى كل طرف حاكماً في “بيئته” وشريكاً في الحكم المركزي بما يمنع خلعه أو تقليص صلاحياته.
على أن ما يطمح إليه العرب، خارج اليمن أولاً ثم في داخلها، أن يكون لقاء رغدان خاتمة لخلاف جدي وليس مدخلاً أو تأسيساً لحرب أهلية جديدة في اليمن الذي يطلب السعادة فتهرب منه…

Exit mobile version