طلال سلمان

على الطريق الطائفة الرهينة ومختطفها المقدس!

يستمتع “الجنرال” كثيراً بالحديث عن الرهائن وعن تراخي الغرب، والأميركيين أساساً، في تأديب الخاطفين، وخضوع “العالم الحر” لابتزاز حفنة من الإرهابيين تساندهم وتحميهم بعض الأنظمة “الهمجية”!
ولقد انتدب الجنرال نفسه، في وقت من الأوقات، لأن يكون “محرر” الرهائن، سيما وإنه المتعهد العمومي لأنواع “التحرير” كافة في البر والبحر والجو، بشراً ومدناً وقرى ومصادر رزق،
اليوم يبدو “الجنرال” في صورته الأصلية وقد سقط عنها التمويه: إنه “بلطجي” يختطف الطائفة المارونية ويحتجزها رهينة فديتها، في أقل تقدير، أن يكون الرئيس من موقع القائد الملهم المطلق الصلاحيات في شؤون البلاد والعباد.
ولما كانت “الطائفة العظمى” تختطف لبنان وتتخذه رهينة، فقد صار لبنان بأسره رهينة في يد الجنرال، يهدده بمدافعه وصواريخه في مستقبله بل في وجوده أي حياته ذاتها،
ولأنها “طائفة” فإن الموضوع يتخذ بعداً خطراً، فتحرير الرهينة سيتحول على الفور إلى حرب دينية تستدر ذكريات الصليبيين ومختلف فصول ما يسميه الغرب ونعتمده بغير نقاش : “المسألة الشرقية”.
ومن أسف إن “الطائفةط تستجيب لخاطفها وتصيره قضيتهاز
فمن دخل قصر بعبدا، سلماً أو حرباً، بأصوات النواب أو بالحراب ولو إسرائيلية، بالأصلة أو بالوكالة، صار صنماً مقدساً يمنع مسه أو مساءلته أو محاسبته حتى لو هدم الهيكل على رؤوس اللبنانيين جميعاً.
ذلك إن علاقة الطائفة العظمى بالحكم، أي بالقصر، لا بالأرض ولا بالشعب،
لذا تتداخل المعاني وتضطرب التحديدات: فالكيان هو النظام، والنظام هو الرئاسة، والرئاسة هي الرئيس لا فرق بينهما ولا فاصل،
والكيان امتياز ماروني، في نظر الطائفة العظمى،
وعلى الكيان يقوم امتياز آخر هو النظام،
والنظام يتجسد في امتياز أن يكون الرئاسة الأولى (وسائر الرئاسات) للطائفة العظمى، لأي فرد منها تتيح له المقادير أن يصل، بغض النظر عن الوسيلة، وبالطبع عن الأهلية والجدارة والاستحقاق،
الرئيس، إذنن هو بؤرة اجتماع الامتيازات في شخص،
إنه الامتيازات مشخصنة ومشرعنة،
فهو الشرعية ومصدرها وليس نتاجها،
وهو فوق الدستور، يعدّله إذا استطاع، ويعطله بالممارسة كلما رغب، فلا يهتز رمش في جفن ولا تطرف عين ولا ترتفع نامة تململ (حتى لا نقول صرخة احتجاج) من أوساط الطائفة العظمى التي ترى نفسها قيّمة على الديموقراطية والنظام والدستور (والقانون!!) والكيان الخالد،
هل من الضروري إيراد الأمثلة؟!
يمكن الاكتفاء بنموذجين محددين: أولهما أمين الجميل والثاني ميشال عونن
بسرعة حقيقية حقق أمين الجميل إجماعاً حول صفاته الشخصية – الكفاءات منها والمثالب – فلم يعد يجادلك أحد في أنه ليس نظيف الكف وليس قصر الباع ولا يحب النزاهة أو الترفع، وإنه قصير النظر ومتسرع يرتجل قراراته “التاريخية” ارتجالاً، وإنه فردي إلى أقصى حد، وإنه تربى على الدلال ففسدت أخلاقه، وإنه يتمسكن حتى يذوب رقة في حال العجز وبتجبر ويطغى إذا ما تمكن.
ولا يجد اليوم أحد في أن أمين الجميل قد دمر الوحدة الوطنية للبلاد وهشم ركائز دولتها وألغى معالم النظام (الديموقراطي البرلماني!!) فسبق مياشل عون إلى ادعاء “القيادة” فوق الرئاسة وإلى ادعاء دور المنقذ والمخلص وموفد العناية الالهية،
أشعل حرب الجبل فاستعدى الدولة على الدروز فاضطروا إلى مواجهتها ورفع السلاح بوجه جيشها،
وأشعل حرب بيروت فامتهن كرامة أهلها وأذلها مستعدياً الدولة وجيشها على المسلمين عموماً،
ثم أشعل حرب الضاحية ووضع عسكر جيشه في مواجهة أهله مباشرة فإذا بجهمور الشرعية الطيع يجد نفسه مضطراً إلى حماية ذاته عبر الاصطدام بدولته محتمياً بعصبيته الدينية فالمذهبية كشيعة،
كان من قبل قد اصطدم مباشرة أو إنه ورث مسلسلاً من الصدامات مع أقطاب الطائفة المارونية،
ثم عبر الحكم قزم سائر الطوائف المسيحية في مجموعة من المنافقين والكتبة وحمالي الشنطية،
وهكذا بعد شهور فقط كان قد استقطب عداء جميع الناس لأية طائفة انتموا بدءاً بالموارنة وانتهاء بالملحدين!
مع هذا فقد ظلت الطائفة العظمى تحتضنه وتذود عن حياضه وتدافع عنه وتقاتل الناس جميعاً من أجل “شرعيته” مع تسليمها بعدم كفاءته وبارتكابه لمجموعة من الجرائم والجنايات التي لا يغفرها ضمير أو عرف أو قانون،
فهو الرئيس، ولأنه الرئيس فهو هي وهي هو من مسه مسها ومن خلعه ضرب الامتيازات وأسقط النظام وألغى مبرر وجود الكيان الخالد!
نكتفي بهذا القدر من مزايا أمين الجميل وخصاله الحميدة مستذكرين فضله الأخير والذي جاء خير خلف لخير سلف، العماد ميشال عون،
مشهورة قصة “تعيين” ميشال عون في الدقائق الأخيرة من الليلة الأخيرة من العهد الميمون، ليلة الكونياك في القصر الجمهوري ببعبدا،
بشحظة قلم في ساعة تخل سلم أمين الجميل البلاد وسلمها لضابط أرعن كان هو شخصياً لا يكف عن تحقيره كل يوم، وكان يتقصد إهانته في كل مناسبة، وكان قد وقع مرسوماً بإقالته من منصبه كقائد للجيش لأنه “مش خرج” و”جبان” كما كان يقول عنه،
كان يقول أكثر وأخطر من أن ينشرن ولكن ما علينا،
المهم، مع انتصاف ليلة الكونياك تلك، تحول ميشال عون إلى رمز للشرعية ومصدر لها، وتوحد مع الطائفة العظمى، والنظام الفريد والمكان الخالد وسائر الامتيازات التي لا تجوز حتى مناقشتها!
لم يتوقف أحد لمناقشة اعتراضات المعترضين، وهم الأكثرية الساحقة من الشعب بطوائفه جميعاً بدءاً بالطائفة العظمى ذاتها،
مع الصباح صار الطعن بهذا الاختيار البائس مصدراً لاتهامك بأنك “طائفي” وربما مصدر خطر على الوجود المسيحي في الشرق!
لكأنما يصلح مثل هذا الضابط الأرعن رمزاً لبعض هذه الأمور بكل دوره المؤثر في تاريخها،
ما علينا… سلم الناس به رئيساً لنصف حكومة أو حكومة نص وحكومة الضابطين، فمهمته بطبيعتها انتقالية تنحصر في الإشراف على انتخاب رئيس جديد للجمهورية،
فجأة، تجرأ ميشال عون فاقتحم القصر الجمهوري واتخذه مقراً له،
قرر أن ينصب نفسه صنماً مقدساً، أليس هو “الماروني” صاحب الحق الشرعي والمؤهل لأن يؤتمن على البلاد ودستورها ونظامها وصيغتها فريدة التي تسقط من حسابها، بغير مناقشة، رجلاً مثل سليم الحص، ناقص العلم معدوم الكفاءة قليل الخبرة وليس شديد التعصب ويتعلق بأهداف النزاهة فلا يسرق ولا يتيح للسارقين أن يسرقوا مخالفاً بذلك قواعد “السوق” وأدبها!
ولقد واكبته الطائفة العظمى واعتمدته صنماً مقدساً وتوحدت فيه.
وكان طبيعياً، والحال هذه، أن يقفز من فوق مبرر وجوده الأصلي وأن ينتدب نفسه لمهمة جديدة تبقيه في القصر إلى أبد الأبدين هي “حرب التحرير” ضد “السوري” الذي صار الآن محتلاً طالما إنه تردد في دعمه مرشحاً أوحد لرئاسة الجمهورية.
نسي إنه بعث يقول لمن في دمشق: اعتبروني ضابطاً صغيراً في جيش حافظ الأسد، وقرر أن “يحرر” سوريا ذاتها وليس لبنان وحده من حكم حافظ الأسد!
فتح مدافعه صباح ذلك الثلاثاء الأسود، في 14 آذار، فلم يرتفع صوت بالاحتجاج أو الاعتراض أو التحذير من سوء العاقبة على البلاد ومصالح الطائفة العظمى.
مضى في “حربه” مبشراً اللبنانيين بهدم عاصمتهم وبنقل بضعة آلاف منهم إلى العلم الآخرن وبأنهار من الدماء والدموع وبآلام لا تحد،
وظل الصمت هو السيد في أوساط الطائفة العظمى،
وليس إلا بعد جهد جهيد حتى تحرك بعض المراجع وبعض النواب، فقالوا: يا مولانا الفيل… فلما همدر اكتفوا بأن يبلغوه بأن الفيل بحاجة إلى فيلة، لكي يكمل نصف دينه،
بعد ذلك لم يجرؤ أحد على تذكيره بأنه، في حال التسليم بشرعيته، رئيس لحكومة مؤقتة مهمتها محددة بدقة : الإعداد لانتخاب رئيس جديد للجمهورية،
كانوا يونه يدمر الجمهورية ولكنهم لا يتكلمون خوفاً على الرئاسة وامتيازات الطائفة العظمى،
كأنما الامتيازات أهم من الوجود،
وها هو اليوم يرفض الحد الأدنى من مطالب الناس: عودة الهدوء بوقف إطلاق النار ورفع الحصار وفتح المعابر والمطار، لكي يتمكن النواب من التلاقي والبدء بحوار مفتوح حول صيغة لبنان المستقبل،
كل ذلك في كل دعم عربي شبه إجماعي ودعم دولي مطلق يكفي لضمان مصير الأرض ومن فيها والكواكب السيارة والخامدة أيضاًز
لكن الطائف العظمى تقدم أسباب الاختلاف المحتملة على أسباب الاتفاق الأكيد، فلا تدفعه إلى قبول البنود السبعة التي تلبي حاجة اللبنانيين إلى الأمنن تاركاً لذلك الجو العتيد الذي يفترض أن يجري في جو صحي وهادئ أن يحل المشكلات السياسية للبلاد.
إنها رهينة بإرادتها، تقزم نفسها لتصير بحجمهان ولتقبع خائفة مثله ومعه في الطابق الثالث تحت الأرض في القصر الجمهوري ببعبدا،
بل يبدو في لحظات وكأنها تتلذذ بكونها رهينة،
أتراها صحيحة تلك المقولة الخالدة لأحد منظري الطائفة العظمى ورموز طموحها غير المحدد؟… لقد قال، لافض فوه،
“نحن في لبنان لأننا حكامه، فإذا لم نكن الحكام فكندا أجمل أو الولايات المتحدة، أو حتى أستراليا.
“حيث نحكم يكن لبنان، ولو صار بحجم قرية”.
لعلها المرة الأولى لتكون المشكلة مع الرهينة لا مع مختطفها!
وكان الله في “عونه” يا سي الأخضر،

Exit mobile version