طلال سلمان

على الطريق الضياع بين القمتين!

مع كل يوم يمضي على “قمة الملك” في عمان تتكشف أكثر فأكثر طبيعة المهمة “العربية” التي كانت مناطة بها، والتي أنجزتها تقريباً بقدر عال من النجاح.
ومع اقتراب الموعد – المفترق، موعد قمة الجبارين في واشنطن، تتبلور أكثر فأكثر وظيفة قمة عمان، دولياً، وقراراتها وموقعها على خريطة الصراع بين القوتين الأعظم في العالم.
فقمة عمان أنجزت، تقريباً، ما قصر عنه فلم ينجزه أي لقاء عربي على أي مستوى، إذ أنزلت مرتبة الصراع العربي – الإسرائيلي الدرجة الثانية بل الثالثة، ثم إنها حورت طبيعة هذا الصراع وزورته فجعلته “نزاعاً”، وشطبت هدف “التحرير” وكل ما يتصل به من التزامات وموجبات محددة ومعروفة.
أكثر من ذلك: لقد ألغت “قمة الملك” في عمان فلسطين، نهائياً، كقضية تستحق النضال والموت من أجلها، مبقية على رمز باهت لها في “الممثل الشرعي والوحيد” لشعبها، أي منظمة التحرير.
لقد انعقدت قمة عمان تحت شعار “قومي” مزيف عنوانه “مواجهة الخطر الإيراني”، وانتهت بأن أعادت الاعتبار إلى النظام المصري كما هو، أي كما تركه أنور السادات، مقيداً ومغلول الإرادة بمعاهدة الصلح المنفرد واتفاقات كامب ديفيد.
وحتى قمة عمان كان النظام المصري هو النظام العربي الوحيد الخارج – رسمياً وقانونياً – من حلبة الصراع العربي – الإسرائيلي، والمتنصل من كل موجبهات هذا الصراع، وبالتالي من موجبات تحرير فلسطين أو حتى بعض أجزائها، بقوة السلاح أو بالمفاوضات المرتكزة إلى قوة مستمدة من توازن مختلف بين العرب مجتمعين وبين الكيان الصهيوني،
أما بعد قمة عمان، وعبر هرولة الأنظمة العربية إلى القاهرة تحت ستار الخوف من “الاجتياح الفارسي” للأمة العربية، فقد هجرت الأكثرية المطلقة من الدول العربية قضية فلسطين، وطبعت من جانب واحد علاقاتها مع النظام المصري مسقطة اعتراضاتها السابقة على كامب ديفيد وعلى ارتفاع العلم الإسرائيلي في سماء القاهرة العربية.
ثم إن إقرار مبدأ التفاوض، حتى ضمن المؤتمر الدولي، ينطلق من القرارات المكرسة للنتائج العسكرية والسياسية للهزيمة العربية في حزيران 1967، وللعجز العربي، عن حماية النصر الأولي في حرب 1973،
وتلك القرارات، وأشهرها وأوضحها دلالة، قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 242، لا يذكر فلسطين كتراب وطني لدولة بالذات، أو لشعب بالذات، كما أنه لا يتحدث عن الشعب الفلسطيني إلا كمجموعات من اللاجئين المقيمين على “أراضي” الدول الأخرى… فكيف تكون ثمة أرض لشعب لا لدولة له، بل وكيف يكون ثمة شعب حيث لا أرض ولا دولة؟!
… وإذا شئت التباسط فغن الإشارة إلى منظمة التحرير بوصفها “الممثل الشرعي والوحيد” لشعب فلسطين في قرارات قمة عمان لها من القيمة والفعلية وقوة التأثير تماماً مثل ما لرفع العلم الفلسطيني على شرفة شقة في عمارة سكنية في القاهرة باعتبارها مكتباً للمنظمة التي لم يتبق منها إلا القليل… في انتظار قمة أخرى وأخيرة!!
إذن، كان المطلوب إعادة الاعتبار إلى النظام المصري، وتقديم هذا النظام بسياساته الموروثة عن أيام السادات، وكأنه يختزل ويختزن الحل النموذجي “للنزاع” في الشرق الأوسط…
والمذكرة الأميركية إلى قمة عمان تحدد أهدافها بوضوح:
فالقمة مطلوبة كمتراس عربي للأميركيين في وجه الخطر الشيوعي (سوفياتياً بالأصل وصينياً بالاستطراد).
ولأن هذه وظيفتها فمن الطبيعي أن يطلب منها وأن تلبي الطلب فتضفي شيئاً من “الشرعية” على الوجود الأميركي (والغربي) المسلح في الخليج الذي كان عربياًز
ومن الطبيعي أن يرتبط شرط توفير الحماية للأنظمة الخائفة من رياح الإسلام والثورة بالعداء للشيوعية، أولاً، وبالانحياز الكامل والعلني والمطلق للمعسكر الأميركي وإسرائيل منه في الصميم،
“تريدون حمايتي، إذن فلا حرب مع إسرائيل، بل الحرب مع الاتحاد السوفياتي ومع الشيوعية، وبعد ذلك نتكفل برد الخطر الإيراني عنكم”!!
لكن مصر بلا فلسطين جسد بلا روح وبلد بلا قضية، وشعب مضيع بين الفرعونية والميدتيرنية والانفتاح القاتل!
ومصر هذه هي النموذج والقدوة للأنظمة العربية الأخرى،
وعلى من يريد أن يماثلها، فلا يقاتل في فلسطين ولا حتى ضد إيران، بل هو يفتح أرضه وسماءه ومياهه للوجود العسكري الأميركي لكي يحقق أهدافه الاستراتيجية، على مدى الكون، وفي هذا مجد العرب وفخارهم!
أكثر من هذا: من لديه سفن حربية (كالكويت) فعليه أن يعيرها للأميركيين، إذ كيف من دونها سيحمون عروبة العرب من الخطر الفارسي؟!
… وفي قاهرة النظام – الخلف لأنور السادات يطالب المطالبون بمحاكمة التاريخ، الماضي، الذاكرة، فكرة الثورة وفكرة النضال من أجل الحرية والتحرر.
فمكرم محمد أحمد لا يكتفي برفع صوته مطالباً بمحاكمة خالد جمال عبد الناصر، بل هو يسمي أعضاء تنظيم “ثورة مصر” القتلة!!
ومكرم محمد أحمد، ما كان ليكون شيئاً مذكوراً، وما كان أحد ليعرف اسمه، لولا أن جمال عبد الناصر صنع بالثورة مجد مصر وأعطى الأمة بالنهوض القومي دورها العظيم ومكانتها في العالم،
وفي غد قد يطالب مكرم محمد أحمد بمحاكمة الفدائي أو الفدادئيين الشجعان الذين هاجموا سيارة عسكرية إسرائيلية في رفح،
ولعله، لو قدر لطالب بمحاكمة البطلين خالد محمد أكر وميلود بن ناجح نومه ورفاقهما الذين حلقوا فوصلوا وأنجزوا عملية قبية في المعسكر الإسرائيلي قرب الخالصة.
إن مثل هذه القاهرة، ومثل النظام القائم فيها، هو المطلوب لواشنطن في قمة واشنطن،
وعلى صورته ومثاله يجب أن تكون سائر الأنظمة العربية،
بل إن عليها أن تحصل منه بالذات على شهادة حسن سلوك ممهورة بالخاتم الإسرائيلي،
وهذا ما أنجزته قمة الملك في عمان، إلى حد كبير،
فماذا يمكننا، بعد، أن ننتظر في قمة واشنطن ومنها؟!
لقد باعتنا أنظمتنا قبل انعقادها ، وألغت وجود قضيتنا، وإذابت نفسها كلية في الجانب الأميركي.. وهي خسرت فلسطين ولم تربح مصر، بل لعلها قد كرست خسارة مصر وفلسطين معاً.. فلماذا، ومع من، ومن أجل ماذا تكون المفاوضات، ويكون ضرورياً عقد المؤتمر الدولي؟!
إن “قمة الملك” في عمان قد ألغت عروبة العرب عندما ألغت قضيتهم القومية: فلسطين،
وواشنطن ستقر بالأمر الواقع: إن فلسطين مجرد علم مزركش الألوان مرفوع على سارية في مدينة أسيرة، بينما العلم الآخر ذو النجمة المسدسة يعلن طبيعة المرحلة وسياقها.
… خصوصاً وإنه يحمل الآن تواقيع العائدين بالتوبة إلى قاهرة السادات، والرافعين راية الحرب ضد جمال عبد الناصر وقاهرته التي كانت ذات يوم عاصمة العرب وكعبتهم ومنارتهم وسيفهم والترس والقلم والقصيدة واللحن والأغنية وضوع الياسمين!

Exit mobile version