طلال سلمان

على الطريق الضاحية – ضحية في انتظار قرار دمشق

الزواريب في الضاحية أضيق من أن تتسع لقضايا كبيرة وجليلة كالتي يرفع راياتها المسلحون المقتتلون بأرواح الأهالي وأرزاقهم وممتلكاتهم.
… خصوصاً وإن هؤلاء المسلحين الأشاوس الذين تصعب نسبة ممارساتهم إلى تيارات أو اتجاهات فكرية وسياسية محددة، لم يهتموا كثيراً بتوسيع الأزقة الموحلة والزواريب المحفرة ولا بطمر المجارير المكشوفة، لكي تتمكن القضايا الكبرى والجليلة من أن تعبر فتصل إلى الأهالي وترشدهم سواء السبيل،
كما إن هؤلاء المسلحين المستشرسين الآن في “حرب الأخوة” لم يجدوا متسعاً من الوقت للاهتمام بأمور تافهة وبسيطة كمثل الماء والكهرباء والهاتف والبريد والتموين، فتركوها أرضاً… نكاية بالحكم الفئوي والهيمنة الكتائبية والسيطرة الإمبريالية الغاشمة!!
على إن هؤلاء “الأبطال” الذي أنجزوا مهام تحرير الأرض والإنسان في لبنان كله بجنوبه وشماله والبقاع و”الكانتون الشرقي”، وزحفوا زحفاً حتى القدس وعادوا منها مكللين بالغار، لم ينسوا – وسط انهماكاتهم – أن يعلقوا الشريط لسرقة التيار الكهربائي، أو أن يكسروا “العيار” لكي يحصلوا على ماء الحي، أو أن يصبحوا في عداد المشتركين بالخط الهاتفي الدولي بوضع اليد!
كيف يكون “الشيعي البشع” إن لم تكن له ملامح هؤلاء الملتحين المحدقين في الفراغ، المستريبين بكل الناس وبكل شيء “خارجهم” والكون برمته خارجهم؟!
وكيف تضيع القضايا وتهدر كرامتها، وكيف تسخف المطالب والشعارات وتتحول إلى مساخر ونكات بايخة، وكيف تمحي الحدود بين الصديق وبين العدو، إن لم يكن عبر مثل هذه الممارسات المجنونة التي لا يمكن فهمها باعتماد تفسيرات المصلحة والعقل والعاطفة فقط!!
على إن “الجنون” لا يكفي لتفسير السياسات الخاطئة،
ثم إنها ليست حالة فرد أو مجموعة من الأفراد لنتهمهم باختلال في المدارك وبقصور أو تخلف عقلي يحد من قدرتهم على تقدير النتائج.
فهؤلاء بالذات، أو قياداتهم على الأقل، قدمت نفسها كنماذج ناجحة في مجالات انتهاز الفرص واستغلال السلطة وإقامة السلطات البديلة، وكذلك في مجال تكديس الثروات والحصول على الأموال بالحرام والحرام، من الجباية المنظمة إلى الخوات إلى مشاركة الناس أرزاقهم وأملاكهم وقوت عيالهم.
ثم إن هؤلاء العباقرة الأفذاذ في فن جني أو جذب أو كسب الفلوس بلا تعب، يظهرون “حكمة” مبالغاً بها في مواجهة الكتائب و”القوات اللبنانية” والعماد ميشال عون وسائر “خصومهم” السياسيين، في بيروت ومحيطها،
بل إنهم قد أبدوا مرونة خارقة وهم يواجهون الاتفاق الأميركي – السوري بشأن الانتخابات الرئاسية في لبنان، ثم وهم يهربون من مواجهة نتائج الاندفاعة النشطة لياسر عرفات ومنظمته في اتجاه الاعتراف بإسرائيل والمفاوضات معها،
ولا بأس من نسيان أو تناسي الوضع في الجنوب، الآن، دفعاً للإحراج وتفرغاً للمعركة المصيرية حول السماء والأرض التي تدور رحاها في الضاحية التي كانت “نوارة” فصارت الضحية اليومية لحماتها الميامين… من أهاليها وسكانها الفقراء!!
بمزيد من الصراحة وبلسان المواطن الطيب الهائم الآن على وجهه بلا مأوى في ليالي كانون يمكن أن توجه إلى المسلحين الملتحين (ربما لإخفاء وجوههم خجلاً أو خوفاً) بعض الأسئلة الساذجة ومنها، على سبيل المثال لا الحصر:
*لماذا هذا العراك الخاطئة استهدافاته، وفي المكان الخطأ والزمان الخطأ؟! وهل هي ، فعلاً، معركة إجلاء “الإيرانيين” ببنادق “الوطنية اللبنانية الجديدة”؟!
وهل تتسع الضاحية لدولة بحجم إيران؟!
أم هي معركة إخراج “الأصوليين” بقوة نيران “المسلمين الشيعة المعتدلين”؟!
وأين الإسلام من كل ما يجري، ومن كل “أبطاله” على الضفتين؟!
** لقد توقفت الحرب مع الخصم السياسي “العقائدي”، أي الكتائب و”القوات” والراحل أمين الجميل وخلفه الصالح ميشال عون بنصف الحكومة وربع الجيش، من دون سابق إنذار ومن دون مبرر لاحق لتوقفها إلا الاقتناع بعبثيتها واستحالة الانتصار فيها،
كذلك فلقد توقفت “الحرب” الأخرى مع الشريك المضارب القائم على الأرض نفسها في الجنوب، أي الفلسطيني، من دون تقديم شروحات كافية لأسباب اندلاعها، والأهم لأسباب توقفها وللمصالحة السحرية التي تمت ذات ليل من الأسبوع الماضي.
مع الترحيب الكلي بوقف تلك الحرب بين الضحايا التي أجهضت المشروع الوطني في لبنان وأضرت أيما ضرر بالمشروع الوطني في فلسيطين، فمن حق الناس أن يعرفوا وأن يحاسبوا من تسبب فيها، ومن استمر يشعل نارها حتى جاءت “إشارة ما” من جهة ما، فإذا البنادق تصمت فوراً ما بين صيدا ومحيطها حتى آخر الجنوب، لتنفجر من جديد حرب الأخوة – الأعداء في الضاحية الضحية.
*** هل من حق قيادة الثورة الإسلامية في غيران أن تعتدل في طهران ثم يستمر حزبها “متطرفاً” في الضاحية، ينادي بتغيير الكون والقضاء على الشيطان الأكبر وسائر الطواغيت واستئصال الكفار بداء بالأشقاء الذين قادهم حظهم التعيش إلى صفوف “حركة أمل” التي كان اسمها ذات يوم “حركة المحرومين”؟!
وهل “حزب الله” هو، في نظر نفسه، مجرد امتداد للسياسة الإيرانية (خارج نطاق إيران؟)
وهل استسلم خصوم إيران وثورتها الإسلامية وتابوا وعادوا إلى فيء الغسلام الحنيف فلم يتبق غير فرض الإسلام على أهل الضاحية… المسلمين؟!
وما هي مسؤولية أهالي الضاحية عن الخلاف أو الاختلاف بين “حزب الله” وبين “حركة أمل”، وكلاهما “جالية أجنبية” في الضاحية، حتى يدفعوا هم وحدهم ثمن خلاف لا شأن لهم به ولا يهمهم بشيء أن يستمر أو أن يتوقف، إلا بمقدار ما ينالهم منه من أذى في الحالين؟!
**** وهل من حق قيادة “حركة أمل” أن تجمد معاركها جميعاً ثم لا تشعل إلا هذه الجبهة التي يضار فيها “الناس” أولاً وأخيراً، والتي لا يمكن للسلاح وحده ولا للمسلحين مهما تكاثروا أن يحسموها، لأن أحداً منهم لا يؤمن بهدف قتاله.
والملصق الملمون “للبطل الشهيد” لم يعد يغري هؤلاء الذين عرفوا لذائذ “السلطة” وطيبات الحياة التي تأتي بها الفلوس التي لا يسألك أحد من أين تأتي بها.
إن خطوط التماس، ولله الحمد، باردة هادئة منذ ما قبل “المقاطعة” و”القطيعة” ، وهي قد استمرت هادئة باردة حتى بعد اغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي، وكذلك بعد فشل الجلسة الأولى المكرسة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في 18 آب الماضي، ثم بعد فشل الجلسة الثانية وشغور سدة الرئاسة في 23 أيلول، وقيام الحكومة العسكرية التي نصفها رافض ونصفها مرفوضز
والحمد لله إن هذه الخطوط ما زالت هادئة وباردة برغم إقفال المعبر ثم فتحه، ناهيك عن القرارات التقسيمية التي فرزت آخر ما كان تبقى من إدارات الدولة والمصالح العامة،
فلماذا الهدوء في كل مكان، ومع كل الأطرافن إلا ضد الضاحية وأهاليها؟!
ما أهداف الصراع الدموي الذي يبدو وكأنه بلا نهاية؟!
هل هي قضية الاعتراف بدور ما لحزب الله؟!
هل هو إصرار “أمل” على احتكار تمثيل الشيعة سياسياً، في لبنان؟!
هل هو الجنوب وما بعده؟!
هل هي صيغة الصيغة الجديدة لنظام الجمهورية القديمة؟!
ما الأمر، وبالسياسة؟!
إن اطلرفين يذيعان أطناناً من البيانات المحشوة بكلام لا يعبر لا عن واقع الحال ولا عن الهدف الفعلي المضمر لهذه الحرب الوحشية ضد الجمهور الطبيعي للتنظيمين المسلحين المقتتلين.
ثم إن الطرفين اللذين تربطهما علاقة طيبة، من حيث المبدأ، بالجمهورية العربية السورية تصل في حالة “أمل” إلى مستوى التحالف الستراتيجي كما تعبر أدبياتها، يلحقان بسمعة قواتها وبدورها في لبنان أذى بليغاً،
فالقوات السورية هي معقد الرجاء ودخولها إلى الضاحية كان مصدر طمأنينة أهلها وعودتهم إلى منازلهم في أعقاب الحفلة السابقة من مسلسل حرب الأخوة الأعداء،
ومع تقدير الناس للحرج الذي تستشعره هذه القوات، والذي يمنعها عن التدخل المباشر وبقوة النار، فإنهم إزاء ما يصيبهم من بلاء لا يجدون من يتجهون إليه غيرها لوقف هذه المذبحة.
وإذا كان التنظيمات المقتتلان قد خسرا جمهورهما المفترض في الضاحية، فإن القوات السورية مطالبة بأن تحمي هذا الجمهور الذي نثر على جنودها الرز والزهر والملبس حين دخلت لتنقذه من حرب الإبادة الأولى في أيار الماضي،
إن دمشق هي المرجعية السياسية والعسكرية والأمنية،
ومع التفهم الكامل لدواعي الصبر وبذل المساعي الحميدة لعل وعسى أن يتعظ وأن يرتدع المسلحون من الطرفين، فإن استمرار الحال على ما هو عليه يسيء إلى دمشق ودورها بأكثر مما يسيء إلى الضاحية – الضحية وأهاليها المسحوقين بالرعب.
إن قراراً حاسماً، ومن دمشق بالذات، هو المطلوب،
والقرار: ألا يبقى مسلح واحد لا في الضاحية ولا في بيروت ولا في أي مكان تتولى مسؤولية الأمن فيه القوات العربية السورية مباشرة.
ومن باب التذير نعيد التوكيد: إن خطوط التماس هادئة تماماً وباردة ولله الحمد، وإذا ما “سخنت” ذات يوم فلن يكون هؤلاء المقتتلون في الضاحية بذوي نفع كبير عليها،
… هذا إذا ما تجاوزنا حقيقة إنهم أصحاب نفع من خطوط التماس، ومن استمرارها ، وفي مختلف درجات الحرارة من أقصى البرودة إلى أقصى السخونة!

Exit mobile version