طلال سلمان

على الطريق الضاحية الطائفة – الضحية!

حققت الأحزاب والحركات والتنظيمات الطائفية، بشكل عام، نجاحاً ساحقاً ومذهلاً فاق كل التصورات والتقديرات: فلقد تكفل كل تنظيم (أو حركة) بتدمير الشعهار أو المطلب المركزي الذي رفعه باسم طائفته.
بداية، انطلق كل تنظيم من اعتبار طائفته، أو حتى المذهب، بمثابة “شعب الله المختار”،
ثم إنه احتكر لنفسه صفة “الممثل الشرعية والوحيد” فصار “القائد المختار لشعب الله المختار”، بغض النظر عن الثمن الذي فرض على الطائفة أن تدفعه لكي تصير “شعباً مختاراً”، وبالتالي لكي يصير التنظيم المعني “قائداً مختاراً”، يفتدى بالروح والدم وما ملكت الإيمان!
وفي حين كانت التنظيمات الطائفية تبيع الناس أوهام الانتصارات المتوالية على الطوائف (أو المذاهب) الأخرى، ثم على التنظيمات والحركات المنافسة أو المناهضة أو المزاحمة داخل الطائفة، كان “المواطن” يضمحل تدريجياً ويشطب، وكانت الطائفة وحقوقها وكرامتها تتراجع مخلية مكانها للتنظيم القائد الذي سرعان ما يذوب في شخص “القائد” القادر – في جملة ما يقدر عليه – أن يلخص ويختزل التنظيم والطائفة والشعب والأمة في الدنيا والآخرة…
أما “الدولة” فقد تشطرت بحسب مواقع سيطرة الطوائف السابقة على الحرب، وهكذا أخذت الطائفة المهيمنة كتلتها الأساسية تاركة سائر الطوائف تتناتش النتف الباقية التي لا تسمن ولا تغني عن جوع.
كانت الكتائب، بوصفها أم الطائفيات جميعاً، هي السباقة،
وقبل الكتائب، ومن ثم “القوات اللبنانية” كانت الطوائف الأخرى تتذمر من هيمنة “الموارنة” على مقاليد السلطة ومواقع الثروة والنفوذ في لبنانز
كانت ثمة “طائفة قائدة” تحتكر لنفسها صفة “شعب الله المختار”، ثم صار لهذه الطائفة “قيادة الهية مختارة”.
وبمقدار ما تم احتكار القيادة فقد باتت الهيمنة أقسى وأشد.
فشرط القيادة ، في مثل هذه الحالة، أن تمارس عدائية مطلقة تجاه جميع القوى داخل الطائفة (ولقد رأينا فصولاً منها في إهدن ثم في الصفرا) وكذلك تجاه الطوائف الأخرى.
فإذا كان لا مجال لشريك من داخل الطائفة الممتازة والمختارة فكيف يمكن القبول بشريك من الأتباع أو الرعاع المتحدرين من طوائف الدرجة الثانية والثالثة و… العاشرة؟!
ثمة قائد واحد “مختار” في تنظيم أوحد “مختار” لشعب الله الواحد “المختار”، فمن سلم سلم، ومن قاوم كان كمن يطلب الموت،
فإذا ما نجح “القائد المختار” صار قائداً لجميع الخلق، وصار بالتالي قائداً للوطن.. أي إن الاندفاع بالطائفية إلى مداها يحول الأعتى طائفية إلى زعيم “وطني” كبير من حقه – كما بشير الجميل – أن يقود اللبنانيين (ومعهم مسيحيي الشرق)، جميعاً، تاركاً للمعارضين والمعترضين أن يختاروا بين الانتحار في القهر الداخلي وبين الاندثار في المهجر الخارجي!
وليس من حق أحد أن يناقش القائد الالهي المختار للتنظيم المختار لشعب الله المختار، أو أن يسائله كيف وبأي أسلوب وعلى حساب من وبقوة من وصل.. فالوصول يلغي النقاش حول وسائله، ثم إن النقاش تشكيك، ومجرد السؤال يعني نقصاً في الولاء للكيان الذي تزعجه، وقد تهدمه الأسئلة… برغم إنه أزلي أبدي سرمدي كما أرز الرب الذي ينخره السوس!
.. على خطى بشير الجميل مشى جميع القادة المختارين، وفي ظلال الكتائب و”القوات اللبنانية” نمت وترعرت مختلف التنظيمات والحركات الطائفية وكلها يناضل من أجل احتراح معجزة “شعب الله المختار” داخل طائفته. ليكون من ثم القائد المختار للتنظيم المختار لشعب الله المختار.
ومن أسف إن التأثييرات المتبقية للثورة الإسلامية في إيران قد اتخذت، في لبنان على وجه الخصوص، صورة مغايرة تماماً لمطامح الحالمين بالثورة والتغيير وتجديد صورة الإسلام ودفع المسلمين على طريق التقدم واستيعاب روح العصر.
فكما يلبنن بعضنا كل شيء يصل إلينا، “لببنت”، وبشكل آلي بعض شعارات الثورة الإسلامية في إيران، أي إنها أسقطت على الواقع السياسي اللبناني بحرفيتها وبدأ العمل لتحويره قسراً بحيث يتقولب مع شعار مثل “الجمهورية الإسلامية”.
وكان ذلك، وما زال ، وسيبقى مستحيلاً.
ومن أسف إن أبطال التجربة الجديدة لم يتعظوا بدروس التجربة الغنية لبشير الجميل وقواته اللبنانية، والتي انتهت نهاية مأساوية برغم توافر العديد من أسباب النجاح لنجل بيار الجميل والمؤسسة الكتائبية التي تجاوز عمرها نصف القرن، والتي تجد في بيئتها المغلقة والمحاصرة بأسطورة “الخوف” ما يغذيها ويحميها، كما إنها تجد في صيغة الحكم (بل النظام) في الكيان اللبناني ما يبرر لها “طموحها” غير المشروع هذا.
.. وهكذا نجد أنفسنا اليوم نواجه في الضاحية – الضحية ومعها وضعاً نموذجياً لنجاحات الحركات والتنظيمات الطائفية في تدمير مصالح الطائفة التي تدعي تمثيلها، بل واحتكار تمثيلها.
ففي ظل سيطرة “حركة المحرومين” و”حزب المستضعفين في الأرض” تحققت “الانجازات” التاريخية الآتية:
1 – لحق بفقراء المناطق اللبنانية الأكثر تخلفاً وفقراً وعوزاً (أي الجنوب والبقاع وبعض الشمال) أذى مدمر وشامل لم يلحقهم مثله على امتداد سنوات الحرب في لبنان.
فلقد دمرت مدفعية “المحرومين” والمدفعية المضادة” للمستضعفين” أيحاء بكاملها لا يقطنها إلا المحرومون فعلاً والمستضعفون فعلاً ممن عاشوا عمرهم كله في حزام البؤس حول بيروت… وكانوا كلما “سقطت” منطقة من مناطق هذا الحزام هربوا لاجئين إلى ما تبقى منه حتى امتشد منهم “ربع الوطن” في “الضاحية – الضحية”.
إن الذين يهيمون على وجوههم الآن في البراري، أو ينزلون ضيوفاً ثقلاء على بعض أقاربهم في بيروت أو في البقاع والجنوب، هم “المهجرون” الدائمون في ظل الحروب السابقة التي استهدفت توكيد جدارة الطوائف الأخرى في منزلة “شعب الله المختار”، بما في ذلك تنصيب الطائفة الشيعية شعباً مختاراً ممتازاً نتيجة لعديدها اللجب.
2 – فرض على الشيعة أن يخوضوا صراعاً رهيباً لتحديد هويتهم التي لم يكن ثمة نقاش حولها…
وهكذا بالغ تنظيمهم المحلي (أمل) في التوكيد على “اللبنانية” حتى كاد يستعدي عليهم جميع العرب،
وبالغ تنظيمهم “الأممي” (حزب الله) في التوكيد على نمط معين من الإسلام حتى كاد يخرجهم من صفوف المسلمين،
وإذا كانت حرب المخيمات قد دمغت “أمل”، ومن بعدها الشيعة، بعدائية معينة للفلسطيني مقربة بينها وبين الكتائب ، (السباقة إلى قتال الفلسطينيين)،
فإن التطرف في الشعارات ذات الصدى الأممي قد أوجد مساحة مشتركة تتقاطع فيها مواقف “حزب الله” مع مواقف “القوات اللبنانية” وسائر الرافضين للحل – التسوية في لبنانز
وفي الحالين فإن الشيعة قد خرجوا من غمار هذا الصراع الرهيب مجرحين، البعض يتهمهم في عروبتهم، والبعض في إسلامهم، من غير أن يكسبوا الاعتراف الصريح بلبنانية “صافية” تعطيهم في هذا النظام الفريد منزلة مميزة!
3 – أكثر من هذا وأخطر: لقد شطبت حرب الضاحية – الضحية الموقع الشيعي في المعادلة السياسية اللبنانية… فمن خلال الصراع على احتكار تمثيل شعب الله المختار الشيعي دمر المقعد الذي كان يسعى إليه كل منهما.
وبات من حق شعوب الله المختارة الأخرى أن تتساءل الآن: ترى من هو “ممثل” الشيعة في الصيغة الطائفية القديمة – الجديدة؟!
أهو حزب الله الذي ظهر كقوة عسكرية حسنة التنظيم، عالية الكفاءة، وإن كان يفتقد القبول الشعبي لشعاراته المتطرفة والتي تكاد تجعل كل من لا يقول قوله حزباً للشيطان؟!
أهي “أمل” التي احتكرت منذ “انتفاضة” 6 شباط 1984 حق تمثيل الشيعة باعتبارها التيار الأقرب إلى التعبير عن المحروم والمغبون والطامح إلى مشاركة جدية في السلطة داخل النظام اللبناني وفي إطاركيانه بالذات؟!
أم هم السياسيون التقليديون الذين أعاد إليهم الاعتبار تعثر “الانتفاضة” التي بدأت مباركة وانتهت “ملعونة” و”مشؤومة” على حد تعبير المفتي عبد الأمير قبلان وهو الذي كان بمثابة الحاضنة؟!
وهل هي مصادفة أن تكون إطلالة كامل الأسعد العلنية الأولى على الحياة السياسية مجدداً قد تمت في هذا الظرف بالذات ومن خلال لقاء مع البطريرك الماروني بالذات؟!
4 – جاءت الضاحية – الضحية لتدمغ الشيعة أكثر فأكثر بصبغة الإرهاب والعنف، فهم ليسوا قساة على غيرهم من الأجانب أو الطوائف الأخرى فقط (حرب المخيمات، حروب بيروت) بل هم قساة أيضاً في ما بينهم وعلى أنفسهم، يدمرون بيوتهم ذاتها ويقاتلون حتى أهلهم ويأكلون أبناءهم…
5 – حملت المفاوضات التي جرت لإنهاء حرب الضاحية – الضحية مجموعة من الاتهامات الضمنية بل والعلنية الجديدة للشيعة عبر تنظيماتها، السياسية الأساسية…
فبقدر ما بدا وكأن “حزب الله” هو جالية إيرانية طارئة على البلاد، قرارها في الخارج وقيادتها في الخارج، فلقد بدت “أمل” وكأنها “محمية” سورية.
وبغض النظر عن مدى الاساءة التي تحملها هذه الاتهامات إلى سوريا خاصة، فإنها ليست تزكية لإيران، إضافة إلى كونها بمثابة رصاصة رحمة على التنظيمين اللذين قدم كل منهما نفسه وكأنه “الإنقاذ” للعباد والبلادن ناهيك بكرامة الطائفة والمسلمين!
6 – لقد أخلى المواطنون ساحة الحرب في الضاحية، وهذا موقف لا يصدر عن الخوف فقط، بل هو يعلن بأعلى الصوت إن كلا من التنظيمين لا يمثل أهل الضاحية ولا يعبر عنهم،
تريدون الضاحية؟1 حسنانً، خذوها من دون سكانها وكونوا زعماء على الخراب والأنقاض والبيوت الفارغة (بعدما نهبت)!
أما القرار فقد ظل مع الناس الذين خرجوا وهم يتحسرون على “أمل” التي نجحت في أن تعبر عن معارضتهم ثم سقطت حين حكمتهم وتحكمت فيهم فحببت إليهم سلطة الدولة القديمة، الفئوية والظالمة1
لقد ألحق الصراع على “القرار” وعلى “قيادة الطائفة” من الضرر بالطائفة ومصالحها ما لم يلحقه الاجتياح الإسرائيلي ولا الاجتياح الآخر الذي شنه عليها أمين الجميل بجيشه في مطلع عهده.
من هنا فإن بين الضحايا الأول التي سقطت في الضاحية : حركة أمل وحزب الله.. لقد ظهر إن الضاحية غيرهما وخارجهما، بل وإنهما لن يدخلاها مرة أخرى…
لقد سقطت حركة “امل” سقوطها العسكري الأخير في الضاحية، ولكن “حزب الله” فشل في أن يحقق نجاحه السياسي الأول في الضاحية.
وإذا كانت حركة “أمل” قد فقدت، في جملة ما فقدت، في الضاحية وعبرها احتكار تمثيل الطائفة، بل وحق تمثيلها وبالتالي قيادتها، فإن “حزب الله” لم ينجح في أن يقدم نفسه البديل،
لقد أسقطها وسقط معها،
وفي ضاحية الغد لن يكون ثمة مكان لأحدهما ، بل لا مكان لأي ميليشيا مسلحة.. فما تم ربحه في السياسة قد تسبب استخدام السلاح في إضاعته…
وليس بالسلاح يكون الحوار، ويكون الدور،
وليس بالسلاح تكون القيادة،
وقبل: لقد سقطت أسطورة شعب الله المختار في الكيان الصهيوني ذاته، ومؤكد إن سقوطها في بلد كلبنان سيكون أسرع وأعظم دوياً.
ولقد تأكدت تلك الحقيقة القديمة والباقية: إن الطائفية لا تؤدي إلا إلى خراب الوطن، يتمزق شعبه ويتوه وتضيع أرضه وتتشوه قضيته حتى تندثر.
وإن الصراع السياسي هو الطريق إلى الغد الأفضل وليس السلاح،
فالسلاح بلا قضية يوصل إلى الاقتتال وإلى مزيد من الحروب الأهلية تبدأ ضد الغير وتنتهي حكماً ضد الذات…
وليكن الله في عون القوات العربية السورية وهي تتدخل، مرة كل سنة أو سنتين، لتنهي حروب الطوائف ضد بعضها البعض، أو لتوقف حروب أبناء المذهب الواحد على ذاتهم، في البلد الذي كان يزعم إنه واحدة الديموقراطية والشارع الوطني والقومي والمنبر المفتوح لكل مناد بالحرية وبالمساواة.

Exit mobile version