طلال سلمان

على الطريق الصورة في نيويورك وأصلها في لبنان!

جميلة هي الصورة التي قدمها الرئيس الياس الهراوي “لأخوتنا” من لبنانيين المغتربات الأميركية عندما مد ذراعيه ليرفع ذراعي رفيقيه على قمة السلطة، حسين الحسيني وعمر كرامي، تدليلاً على وحدة الحكم واستطراداً وحدة “العائلات الروحية” في الوطن النهائي الواحد الموحد.
جميلة هي الصورة برمزيتها، فهل أجمل من تشابك أيدي قادة “الجمهورية الثانية” أمام رهط الهاربين من “الجمهورية الأولى” وحروبها، أو ربما من “الجمهورية” ذاتها لارتطامها بأحلامهم أو أوهامهم التي ولدت من رحم الحرب الأهلية وأخذتهم إلى “التقسيم” أو إلى الهجرة النهائية من أرض لا ترفد الأحلام بماء الحياة؟
لكن هذه الصورة الأكثر جمالاً من أن تكون حقيقة، كما يقول المثل الفرنسي، تهتز اهتزازاً شديداً عند وصولها إلى “الأصل” في لبنان – المقيم، ليس فقط بسبب بعد المسافة بين نيويورك وبيروت، بل أساساً بسبب بعد المسافة بين اللبناني واللبناني، التي حولتها الحرب إلى فجوة واسعة من الأحقاد والآلام ومشاعر البغض والكراهية والانتقام والرغبة في الثأرن ولم يردمها بعد الأل بالسلام الآتي… باسم النظام العالمي الجديد.
ولقد كان وليد جنبلاط شجاعاً في تجسيده لهذه الحقيقة المرة (الأصل) حين طرح قضية التهجير والمهجرين كما يجب أن تطرح وبوصفها هماً وطنياً عاماً لها جذرها التاريخي ولها أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخطيرة التي تتجاوز بمسؤولياتها هذا القائد أو ذاك وهذه الطائفة أو تلك.
كذلك تصرف “الرئيس” ميشال المر بحس رجل الدولة المسؤول حين سارع إلى تبني منطق وليد جنبلاط والتنويه بشجاعته وحكمته في معالجة مجزرة معاصر الشوف، وتركيز الطرح الوطني والقومي لقضية المهجرين التي هي أهم بكثير وأخطر بكثير وأعمق بكثير من أن تعالج بالمزايدات الطائفية أو السياسية الرخيصة.
ولعل قضية المهجرين في مثل خطورة استمرار الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، بل لعلهما وجها أزمة الوطن والمواطن في لبنان…
فلا التهجير يخص الدروز والموارنة فقط، ولا الاحتلال مسألة تخص الشيعة وحدهم.
ولا دولة طالما استمر الفرز الطائفي قائماً (حتى في الهموم والمسائل الوطنية)،
إن نصف شعب لبنان يمكن احتسابه بين المهجرين، وفيهم – ولله الحمد – من الطوائف جميعاً، وبعض المهجرين هم في الوقت ذاته مهجرون (بالكسر). لقد أخرجهم آخرون من قراهم وأحيائهم وبيوتهم بقوة السلاح، وهم بدورهم أخرجوا آخرين من قراهم وأحيائهم وبيوتهم بقوة السلاح.
حتى الاستعانة بغير اللبناني، عربياً شقيقاً كان أم عدواً إسرائيلياً، تهمة مشتركة تصيب الجميع، إذ أن الجميع تورطوا فيها بهذا القدر أو ذاك.
وصحيح تماماً ما قاله وليد جنبلاط من أن المصالحة الوطنية لم تتم بعد، فتسوية الطائف هي مرحلة انتقالية يفترض أن تنتهي بقيام الدولة – الوطن على حساب الكيان الطائفي الذي كان والذي يريد البعض استمراره لضمان استمرار الهيمنة الفئوية وإلا… فكندا وأستراليا أفضل لهم من لبنان لا يحكمونه!!
بهذا المعنى فإن الصورة التي قدمها الرئيس الهراوي لرهط “الأخوة الأميركان” هي صورة المرحلة الانتقالية لدولة قيد التأسيس وليس لحكم سوي في “وطن نهائي”.
ومع التقدير لجرأة الرئيس الهراوي في مواجهة المضللين أو الموتورين أو الذين ما زالوا أسرى ذكريات الحرب الأهلية، معاشة أو منقولة بروايات مضخمة بأحقاد المكتوين بنارها أو المنتفعين بتأجيج تلك النارن فإن تخطى آثار الحرب يحتاج بعد إلى زمن طويل وعمل كثيف ونضال شاق وبطولات حقيقية (بينها الانتصار على الذات).
لا الحكومة هي المصالحة الوطنية، ولا برنامجها هو الطريق، ولا “إنجازات” أعضائها تقرب البلاد خطوة واحدة من هذا الهدف السامي… وليس هذا طعناً فيها أو في أشخاصها، ولكنها هي الأخرى تسوية مؤقتة و”بدل عن ضائع”. وملء للفراغ بمن حضر أو فرضته الضرورة لمنع تجدد الحرب ليس إلا.
المصالحة الوطنية إنجاز تاريخي يطوي صفحات قرنين من العداء والحروب والتهجير والتهجير المضاد والتواطؤ مع الأجنبي على الشقيق، والانسياق مع دعاة الفتنة تحقيقاً لمصالح شخصية أو فئوية ضيقة ومحدودة.
ولقد انتهى عصر “الأمير” هو الدولة والوطن، علماً بأنه لم يكن حقيقة في أي يوم.
واندثر العصر الذي كان يختزل فيه الشعب بمجموعة من الطوائف – العشائر، وتختزل فيه هذه بمجموعة من “المشايخ” و”الزعماء” و”الأقطاب” المعقوفي الشنبات والمرتضين بأن يكونوا واجهات لأصحاب النفوذ والسلطة الفعلية في الداخل والخارج.
إن البلد بأهله ، وأهله بضعة ملايين من المثقلين بالهموم والجراح والآلام والطموحات والأحلام وبينها حقوق الإنسان.
وكل من فرض على أهله القسمة الطائفية كان كمن يفرض عليهم الاستمرار في أسر الطوائف – العشائر وفي قبضة الزعماء الأقطاب وبالتالي في حماة الحرب الأهلية التي تخدم الأقوياء من القادرين على توظيفها لخدمة مصالحهم في لبنان والمنطقة العربية.
والمعالجة المسؤولة لقضية المهجرين هي الخطوة الأولى في اتجاه تحرير الإنسان من الطائفية وادرانها ومناخ الحرب الأهلية، تماماً كما إن تحرير الجنوب هو الخطوة الحاسمة في اتجاه إقامة الدولة – الوطن.

Exit mobile version