طلال سلمان

على الطريق الصحافة بضمير القاضي واجتهاد العالم..

أصعب أنواع الكتابة هي الكتابة عن صديق،
إن القرب الشخصي يربك اللغة: إن قلت ما في نفسك خشيت أن تكون تجاوزت فخلطت الخاص بالعام، وإن احترمت العلنية خشيت أن تظلم الإبداع بحجة مداراة الخصوصية أو الابتعاد عن الموضوعية.
وأصحب من هذا كله أن أحمد بهاء الدين يعيش غائباً عنا وعن عالم القراءة والكتابة منذ سنوات، لكأنما قد غيبته آلام التراجعات وغطت على عينيه قتامة التفريط والانحرافات، فبقي شاهداً يريد بصمته كل ما رفض أن يقبله بعقله وبقلبه وبقلمه قبل أن يغيب داخل عالمه السري والمغلق.
لعل ذلك كله هو “مرضه”.
أحمد بهاء الدين،
مفرد في دنيا الصحافة العربية ، ليثس كغيره ممن عرف وعرفنا، ولعلنا تتلمذنا وإياه عليهم من كبار الصحافيين المصريين.
فهو ليس روز يوسف ولا إحسان عبد القدوس، بل هو شكل إضافة نوعية إليهما، فكانت مجلة “صباح الخير” التي جاءت كاعتراف بجيل الشباب، وتجديد في الصحافة العربية، حيث أعطيت مساحة خاصة للهوى والشباب والأمل المنشود، وكذا للعلوم والهوايات العصرية.
ثم إنه ليس مصطفى أمين وعلي أمين، وحين تولى رئاسة تحرير “أخبار اليوم”، كانت سابقة ليس فقط لأنه الأصغر سناً بين من تعاقبوا على هذا المنصب، بل أيضاً لأنه نمط مختلف تماماً عنهما. ولعل “اعترافهما” به دليل على حيويتهما وعلى تفتح ذهنهما وعلى عراقة علاقتهما بالصحافة ودورها الذي لا يعوض في بناء المجتمعات والاقتراب من حلم الديموقراطية وحق الإنسان في أن يعرف.
كذلك فهو ليس امتداداً لجرجي زيدان في دار الهلال، وإن كان قد اجتهد فنجح في أن يجدد بالإضافة وليس بالحدذف، فطور مبطوعات در الهلال جميعاً، “المصور” و”حواء” ومجلة “الهلال” و”كتاب الهلال” و”روايات الأهل”، و”الكواكب” وصولاً إلى مجلة الأطفال.
وحين افترق تماماً عن سياسة السادات وصحافته وقصد الكويت ليتولى رئاسة تحرير “العربي” لم يكن امتداداً للكاتب الموسوعي مؤسس “العربي” الدكتور أحمد زكي، ولكنه جدد من قلب الصيغة، وكان ذلك امتحانه الأصعب وقد نجح فيه.
أما مع محمد حسنين هيكل فقد شكل معادلاً – موازياً، فكان بعيداً عنه – قريباً منه بقدر ما كان هيكل نفسه قريباً من الأخوين مصطفى وعلي أمين بعيداً عنهما.
ولقد اختار كل من الساسة والصحافيين العرب أحدهما: البعض ذهب إلى هيكل واستقر عنده، وعبر بواسطته، وبعض آخر قصد أحمد بهاء الدين ولم يغادره أبدلاً لا في المهنة ولا في طريقة تناول الأمر السياسي.
وبقدر ما كانا مدرستين متكاملتين في المهنة، فلقد كانا خطين متكاملين في السياسة العربية من موقعيهما في مصر، مصر العمل الوطني والسياسي والعمل الصحافي.
كان هيكل هو “المانشيت”، هو كاشف الأسرار والعارف بالخبايا والمطوع الوقائع لخدمة الوجهة السياسية والهدف المركزي، كما كان في حالات معينة المبشر والمعبئ والدعاية الناجح بامتياز، حتى لقد غدا طرفاً في الخصومة والتحالف.
أما أحمد بهاء الدين فكان وبقي “التحليل” الهادئ والرزين، يعرف ما يكفي لكي يحرض على مزيد من المعرفة، وإشاعة المعرفة، ويستخدم معلوماته والأسرار لتوسيع مساحة الضوء، مع تغليب دائم للعقل على العاطفة، ومع قدر من الحيدة العلمية جنبته التورط في المخاصمة كما لجمته عن الانتساب إلى طرف أو التحالف مع طرف. ظل ضمير القانوني، بل القاضي، حياً فيه، ولعله قد أملى عليه الكثير من المواقف ومن الاجتهادات، كما منعه من التوغل في الأحكام القطعية.
على أن بهاء نجح كما هيكل في تأسيس مدرسة في الصحافة العربية، لها تلاميذها وأتباعها، ولعل هاتين المدرستين قد جذبتا إلى فكرة العروبة، كما إلى الصحافة العصرية المزيد من الشباب الذين كانوا تائهين بين الفرعونية وبين المصرية بالمعنى الكياني وبين الإسلام بالمعنى الأممي..
كما نجح بهاء وهيكل في تأسيس لصحافة عربية في مصر، فلم يعد تناول الشؤون العربية “سياحة” أو “مغامرة” محفوفة بمخاطر الغلط والتسرع والارتجال والتحزق المسبق والغرق في الشكليات مع نقص في التدقيق يمتد من الوقائع والأماكن إلى الأسماء وصور “النجوم”، مخاصمين كانوا أم محازبين.
أحمد بهاء الدين “معهد” و”منهج”.
فبين من تخرج على يدي “بهاء” كتاب وأدباء ورسامون ونحاتون وملحنون ومطربون. وهو نموذج يكاد يكود فريداً من نوعه للمثقف العربي المعاصر.
لقد أطعم نور عينيه للكلمات، ثم وزع أنوار ما قرأه على جمهور تلامذته وقرائه لكي يشق أمامهم الطريقة إلى المعرفة وإلى الصلح.
التهم مكتبات، وفي مجالات شتى، فيها شيء من السياسة وفيها أكثر من الأدب، وفيها – وهذا هو الأهم – الشيء الكثير من معارف العصر وعلومه والمستحدثات.
ولقد كتب في ذلك كله: كتب في الفكر السياسي وعن القادة السياسيين، وكتب في الثقافة وعن الأدباء والشعراء والمبدعين عموماً بمدارسهم المختلفة، كتب في الحب وعن المرأة وموقعها في المجتمع وخاض معارك تحت شعار أن التسليم بحقوق المرأة شرط لاكتمال إنسانية الرجل قبل عصريته، وفتح نقاشات واسعة حول الدين ودوره الاجتماعي، وكتب عن الحرية والديموقراطية والحق بالمعرفة وأصول التعليم، وكتب عن البيئة فكان رائداً في هذا المجال.
ولم يغادر ضمير القاضي في كل ما كتب، ولذلك كان عقله القانوني يضفي عليه طابع المتردد، لعله بدافع الحرص المبالغ فيه على تجنب الخطأ أو الانسياق مع الهوى.
وفي السياسة كان أحمد بهاء الدين عربياً، يحاول ترشيد النهج الثوري لجمال عبد الناصر، ولذا لم يكن “ناصرياً”، ولم تنفع محاولات استدراجه إلى موقع التناقض لا بذريعة التمايز ولا بحجة الانحياز إلى الأيديولوجيا هرباً من الشخصانية.
كان مع الثورة في فلسطين، ورعى – من موقعه – اندفاعاتها الأولى، بغير أن يصبح “فتحاوياً” في وجه الآخرين أو “عرفاتياً” داخل “فتح”.
بل هو كان مع الثورة في كل مكان من أرض العرب، ومع كل تيار تغييري وتجريدي في أربع جهات الدنيا، بغير أن يصبح “حزبياً” أو متعصباً لهذا الشخص أو ذاك.
وفي فترة من الفترات ارتضى أن يقترب من أنور السادات لعله يستطيع التخفيف من الاندفاعات المهووسة أو التقلبات الدراماتيكية ، فلما يئس منه “رجل الزيارة” ألقى عليه الحرم مع ذلك النفر الممتاز من كتاب مصر وصحافييها في صيف العام 1973، فكان ذلك وساماً إضافياً للرجل الهادئ والدمث والمقلق والرافض لأن يكون من كتبة السلطان.
فقط لو نستطيع أن نساعد أحمد بهاء الدين إلى موقعه ودوره الذي لا يعوض.
أما وإن ذلك خارج عن نطاق قدرتنا، فلا يتبقى إلا أن نحاول تعويض صمته المأساوي الذي ينطق بفجيعة جيلنا الذي وعه نفسه بالنصر وافترض أنه يتقدم إليه ولم ينتبه إلا متأخر جداً إلى أنه قد هوى في لجة الهزيمة البلا قرار..

Exit mobile version