طلال سلمان

على الطريق الشارع المفرّغ والحكومة المليئة..

لعل لبنان قد خسر موقعاً مؤثراً برمزيته من رموز العمل الشعبي ممثلاً بالاتحاد العمالي العام، أمس، ولكنه لم يربح حكومة مؤهلة لقيادته نحو مشروعها الخرافي في النهوض الاقتصادي.
وبالتأكيد فإن ضرب الحركة النقابية وقمع الحركة المطلبية وتجاهل الأزمة المعيشية الخانقة التي تعصف باللبنانيين لن تسرّع عملية إعادة الإعمار، ولا هي سوف تساعد على استعادة هذا البلد دوره المفقود (والمفتقد؟) أو على القيام بما كان يرتجى منه في الخريطة الجديدة للمنطقة وفي ضوء التحدي الإسرائيلي المتجدد والمتزايد خطورة.
القمع سلاح فاسد يرتد بالنتيجة على مستخدمه.
ومع التقدير الواعي للظروف السياسية والأمنية الدقيقة التي فرض على لبنان أن يعيشها في الشهور ا لأخيرة الماضية، والتي نشهد ذروتها الآن، فإن الأسلوب الذي عالجت به الحكومة الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية مرشح لأن يؤدي إلى نتائج عكسية تماماً، ليس فقط على المستوى المعيشي بل أساساً على المستوى السياسي.
وليس الاتحاد العمالي العام هو المسؤولعن هذا التداخل الذي وقع بين ما هو أمني وما هو سياسي وما هو اقتصادي – اجتماعي، بل الحكومة بنفاقها وبتسويفها وبتكتكاتها الرديئة وبتحايلها المكشوف على جوهر المسألة، وهي المسؤولة أولاً وأخيراً عن التداخل بكل الاحتمالات الخطرة التي يتضمنها.
فلا مطالب الفئات الاجتماعية محدودة الدخل، وبينها العمال، طارئة أو مستحدثة لكي تدعي الحكومة أنها قد فوجئت بطرحها أو بتوقيت هذا الطرح، مستنتجة من ذلك الريب والشكوك فيمسلك القيادات النقابية التي كان لهذه الحكومة – أو بعضها – الكثير من الفضل في إيصالها إلى حيث هي الآن، على رأس الاتحاد العمالي العام.
ولا التراجع عن الاتفاق الذي عقدته الحكومة مع الاتحاد في منزل رئيسها ثم أقره مجلس الوزراء يضيف إلى رصيد “الثقة” التي باهتنا هذه الحكومة بأنها تحوزها من دون الخلق، وبأنها ستكون “الكنز الذي لا يفنى” والذي سيغرف منه اللبنانيون لحل مشكلاتهم الفردية والعائلية والجماعية، فلا ينضب بل ولا يشح ماؤه.
كذلك فإن تدمير المؤسسة – الرمز لوحدة الحركة النقابية، إنما يحسم من رصيد الوفاق الوطني ليضيف إلى رصيد التيارات الطائفية والمذهبية، التي تسعى بعض الأطراف المشبوهة لتأجيجها الآن.
وليس من الحكمة في أي حال أن تخوض الحكومة حرباً بهذه الشراسة مع واحدة من أعرق المؤسسات التوحيدية – الشعبية، بينما يفترض فيها أن تستنفر كل الوحدويين، أفراداً ومنظمات وأحزاباً وهيئات، لمواجهة المشروع التقسيمي الذي نزل إلى الشارع بعبوات التدمير والقتل الجماعي وبكل العدة اللازمة لإشعال نار الفتنة الطائفية، خدمة للتطرف الإسرائيلي الذي كان ينسف “العلمية السلمية” المتعثرة أصلاً.
لقد كان المأمولأن يوظف الإنجاز الأمني لمصلحة سياسة أكثر عدالة، على المستوى الاجتماعي، وأكثر سلامة على المستوى الوطني العام.
لكن ضعف العقل السياسي في هذه الحكومة وشللها كقيادة جماعية، وادعاءاتها الكبيرة والتي تبلغ حدود الوهم في المجال الاقتصادي، كل ذلك ينكشف دائماً مع أول تحرك من طبيعة شعبية.
فالسمعة المالية الممتازة التي يتمتع بها رئيس الحكومة، ومعها معرفته الأكيدة بأصول المفاوضات مع شركات المقاولات الكبرى والمنفذين المحترمين – دولياً – لمشروعات بناء المدن بما فيها من مرافق عائدة للكهرباء والهاتف والأوتوسترادات، لا تعوّض غياب أو ضعف الحس الاجتماعي.
كل ذلك قد ينفع في تأجيل الأزمة، ولكنه تأجيل يزيد من تعقيداتها وقد يحوّلها إلى كارثة سياسية تذهب بالمنجزات جميعاً، وهي بمجملها أمنية.
فالهراوات والبنادق وحتى المدافع قد ترهب الجائع أو المعوز لفترة، ولكنها لا تنهي إحساسه بالحاجة، خصوصاً وإن الذين يحملونها هم أيضاً أبناء الفئات الاجتماعية ذاتها التي تحاول بكل الجهد تحسين وضعها المعيشي ولا تفكر بالنزول إلى الشارع إلا كإحدى الوسائل الديموقراطية المتاحة لفرض مطالبها على جدول أعمال الحكومة ومن أجل علاجها وحسمها ضمن الممكن والقدرات الفعلية أولاً وأخيراً.
وباختصار فقد خسر لبنان من سمعته الديموقراطية أكثر بكثير مما خسر الاتحاد العمالي نتيجة تراجعه أمام التهويل بمنع التجول لمنعه من النزول إلى الشارع بالأزمة المعيشية.
والأزمة، في أي حال، في الشارع، ولن يلغيها منع التجول، الذي حصن حكومة “الصوت الواحد” ولكن إلى حين، ولكنه كشف ضعفها بحيث لا يمكنها بعد أن تخفيه.
ولا تستطيع أية حكومة أن تعيش في ظل شارع مهجور لأنه مسكون بالخوف…

Exit mobile version