طلال سلمان

على الطريق السيادة تجيء من الجنوب

أخطر ما في “حركة” سعد حداد الجديدة، وهي نسخة منقحة ومزيدة عن “حركته” القديمة في العام 1978، إنها تقول بلسان إسرائيلي فصيح الكثير من المعاني ويبنها:
1 – إن لبنان ليس دولة واضحة الحدود ومعروفة المساحة وسيادتها فوق أرضها نهائية وغير خاضعة للنقاش.
فقبل خمس سنوات اقتطع هذا الضابط المنشق، بقوة إسرائيل وضمن خطتها، جزءاً من هذه الأرض، مستفيداً من الاجتياح الإسرائيلي حينذاك، ومستنقذاً “حصته” لحساب إسرائيل حتى لا تدخلها قوات الأمم المتحدة بوصفها أداة شرعية لإعادة بسط سيادة لبنان وسلطة دولته على هذه الأرض المستباحة.
يومها أعلن سعد حداد، ومن إسرائيل وعبرها، قيام دويلته المسماة “دولة لبنان الحر”، كعنوان لمشروع تقسيمي يمكن اعتماده ورعايته من قبل إسرائيل كوسيلة ضغط على لبنان لابتزازه ما يحقق المطامع الإسرائيلية فيه من “الأمن” إلى “المياه”، والمدى الحيوي بأوسع دلالاتها.
وها هي إسرائيل، اليوم، وعبر سعد حداد ذاته، تخطو خطوة ثانية لإعطاء المشروع التقسيمي ملامح أكثر جدية وأكثر واقعية، عبر الدمج الكامل بين “دويلته” والحزام الأمني الواقي لها والذي تذرعت به لشن حربها ضد لبنان والفلسطينيين.
2 – إن ليس في لبنان دولة، بمعنى السلطة الشرعية وهي التي من أجل بسطها على كامل التراب الوطني استصدرت القرارات الدولية، واستنفرت الصداقات والتحالفات، واستنهض العرب، وسلم بمبدأ المفاوضات مع المحتل الإسرائيلي، في ظل الرعاية الأميركية، بأمل أن تكون أداة تحقيق الجلاء وواسطته.
3 – إن ليس في لبنان جيش وطني هو وحدة جيش الشرعية، فسعد حداد، المطرود من الجيش والمحال إلى محكمة عسكرية، يزعم لنفسه ولمن معه صفة الجيش الشرعي، ويعطي نفسه حق التحدث باسم الشرعية، ويعتبر إنه لا يفعل غير بسط سيادة هذه الشرعية على … الاحتلال الإسرائيلي للمنطاق التي يتواجد هو شخصياً (ومن معه) فيها: يأكل من زاد العدو ويضرب بسيفه، ثم يدعي إنه الجيش والشرعية وممثل الوطن.. ولا يتحرج في الوقت نفسه من إعادة التذكير بحدود “دولته” التي تنحصر – ويا للمصادفة – في الحزام الأمني الإسرائيلي.
ثم إن سعد حداد يوقت “حركته” مع التحرك التوحيدي لجيش الشرعية في إطار بيروت الكبرى ومن أجل توحيد العاصمة وما حولها، تمهيداً وتوكيداً لاستعداد الدولة لاستعادة ما هو خارج يد شرعيتها من مناطق وأطراف.
وبهذا توجه إسرائيل، عبر سعد حداد، طعنة قوية إلى صورة الجيش، الذي لا جيش للشرعية (والوطن) غيره.
وتختار إسرائيل توقيتاً لئمياً، إذ توجه طعنتها بينما الجيش يندفع اندفاعته الأولى على طريق إثبات جدارته بالثقة وقدرته على حماية أمن الشرعية في عاصمتها ومركز حكمها.
وتختار أن تدفع بسعد حداد بينما وفدها إلى المفاوضات في خلده يحاول أن يمتص – بالمماحكة والنقاش العقيم – آثار الهزة التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي، في مواجهة مسؤوليته، عبر حكومته ووزير دفاعه (تحديداً) وجيشه، عن الفظائع التي ارتكبت في لبنان والتي تشكل مذابح صبرا وشاتيلا مجرد عنوان لها.
وفي ضوء هذه الوقائع تتخذ المفاوضات صورة جديدة إذ تبدو وكأنها من الجانب الإسرائيلي، مجرد محاولاة لتقنين واقع الاحتلال “ولبننته”، بنتائجه كافة.
فالمحتل إسرائيلي، بالهوية والمصلحة والوجود العسكري الثقيل، لكن “الحاكم” و”المتصرف” و”الواجهة” لبناني.
الحزام الأمني والمدى الحيوي، التطبيع، مراكز الإنذار ونقاط المراقبة، والفوائد الاقتصادية الهائلة، وحرية تنقل البضائع والأشخاص، كل ذلك يتم لحساب إسرائيل ولمصلحتها وبإشرافها، أما حرس التخم الجديد والذائدون عن المطامع الإسرائيلية والأغراض الإسرائيلية فلبنانيون، وفيهم من ينسب نفسه إلى الدولة اللبنانية وجيشها الشرعي.
وحتى لو اضطرت إسرائيلن ذات يوم، أن تجلي جيش احتلالها فستبقى أهداف الاحتلال محققة بواسطة هؤلاء “اللبنانيين”، ومحمية ببنادقهم (المدعومة والمعززة بالطيران والبحرية والمدفعية التابعة لجيش الدفاع الإسرائيلي!!).
ولا يستغربن أحد أن يستفيق غداً أو بعد غد على سعد حداد في الباروك، أو في عميق، بالبقاع، أو في جب جنين وصغبين والمنصوره، يثبت “تخوم” دولته، ويغطي بالأرزة المرهونة لأمر الإسرائيلي، وجه الاحتلال ويزيف واقعه القانوني والمادي والسياسي.
بل لا يستغربن أحد أن تبدأ إسرائيل حربها الجديدة ضد سوريا ومن تبقى من المقاومة الفلسطينية، لحسم الوضع عسكرياً إذا ما تيسر لها ذلك، بتحرشات يباشرها سعد حداد ومن معه بذريعة “القتال لتحرير لبنان من الاحتلال السوري”!!
على إن الدور الأميركي في هذه العملية يظل ملغزاً، وتزيده تعقيداً التصريحات التي نسب لفيليب حبيب إبلاغها لبعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية.
فكيف تنظر واشنطن، حقيقة، إلى سعد حداد ودوره، وهل صحيح ما يتردد من إنها ما تزال تنصح بيروت “بالتفاهم” معه واستعادته إلى حضن الشرعية، وعلى أي أساس ، وانطلاقاً من أية قاعدة سياسية أو حقوقية أو مسلكية؟!
ثم هل صحيح إن بعض في بيروت قد سمعوا النصيحة الأميركية وعملوا بموجبها، ومن هنا فهم لا يبدون كثير قلق من “حركة” حداد؟!
ويبقى التساؤل حول موقف “الجبهة اللبنانية” و”القوات اللبنانية” وحزب الكتائب من سعد حداد، مشروعاً ، فهذه المؤسسات سبق لها إن أكدت وجود علاقة وثيقة بينها وبين هذا الضابط المنشق، وامتدحت شرفه ووطنيته والتزامه بالمصلحة اللبنانية العليا.
فهل ما تزال على نظرتها إليه، ومستمرة في علاقتها معه، برغم كل ما فعله ويفعله؟!
.. وصولاً إلى موقف الدولة الذي نقدر حرصها على النجاح في بيروت، ولكننا لا نستطيع أن نعزله عما يجري في منطقة الاحتلال الإسرائيلي وهي منطقة تشمل إضافة إلى الجنوب كله بعض البقاع ونصف الجبل، على الأقل.
والموقف الرسمي ضروري ولا غنى عنه، إذ في غيابه نكون قد حرضنا الناس على “التطبيع” والانخراط في عمليته المدمرة للوطن ومصالح المواطنين.
فكيف يمكن “معاتبة” أو “معاقبة” مواطن على شراء فاكهة أو بضاعة إسرائيلية، بينما لا حساب ولا عتاب ولا عقاب لمن يغطي وجه الاحتلال بقناع لبناني قد تكلف إزالته ولوج نفق الحرب الأهلية من جديد؟!
ومع التقدير للجهد الذي بذلته الدولة من أجل إنجاح خطة عودتها إلى القسم الشرقي من بيروت، سعياً إلى بيروت موحدة، تحت راية الشرعية، يجب الاستمرار في التحذير من أن يكون ثمن تكبير بيروت تصغير لبنان،
وأكيد إن أمين الجميل لا يريد “بيروت كبرى” في “لبنان صغير” ، بينما سعد حداد يريد “لبناناً صغيراً” بحجمه حتى لو أدى ذلك إلى أن يتقاسم “الآخرون” مزقاً من الوطن يقيم كل فوق قطعته “لبنانه الصغير”.
ومن هنا ضرورة التصدي لهذا المشروع التقسيمي قبل أن تثبته الأيام ومصالح المنتفعين (إضافة إلى مطامع المحتل) فوق أرض واقع الاحتلال.
فالسيادة تجيء من الجنوب وبها تكتمل الشرعية ويكون الوطن.

Exit mobile version