ليس بين الصيداويين والعُمانيين ثأر أو عداوة قديمة، بل إن ما بينهم عموماً صلاة رحم ووحدة في “الانتماء القومي”، ولو ظرياً، ووحدة في الدين وإن اختلفت المذاهب.
ولطالما تظاهر الصيداويون ومعم سائر الجنوبيين بل واللبنانيين إجمالاً من أجل “تحرر” تلك السلطنة التي احتل شعبها العربي صفحات مشرقة في التاريخ، وفي مقاومة الأجانب و”الكفار” من غزاة الماضي الذين اتخذوا من بلادنا مقراً وممراً لاستعمار شعوب أخرى.
لذا فمن حق الصيداويين ، اليوم تحديداً، أن يسألوا إخوانهم العُمانيين: لماذا تهدرون دماءنا وتسفحون وشائج الأخوة وتبيعون جلدنا للعدو؟!
فليس مقبولاً، في أي عرف، أن تكون صيدا ومعها الجنوب كله في الشارع لتشييع ضحايا القصف الإسرائيلي، بينما تفتح عُمان ذراعيها للترحيب بهذا الإسرائيلي ذاته، قاتل اللبنانيين والفلسطينيين (على الأقل) الذي يجيئها باسم “السلام” قبل أن تجف دماء ضحاياه على كفيه وثيابه.
كان يمكن أن يفهم الناس مثل هذا التصرف من سلطنة عمان أو من سائر الأقطار العربية التي تبرعت باستضافة لجان المفاوضات المتعددة الأطراف، لو أنه يجيء كنتيجة للسلام الموعود (؟!)، أي “كجائزة” للمحتل الذي ارتضى أن يجلو عن الأرض العربية التي احتلها توكيداً لحرصه على “حسن الجوار” و”التعايش السلمي” مع جيرانه العرب.
أما أن تجيء “الضيافة العربية” تثبيتاً للاحتلال الإسرائيلي لبعض الأرض العربية وتعزيزاً لقدرات الإسرائيلي، الذي لا يبدو شديد الحرص على نفي صفة “العدو” عن نفسه، وتمكيناً له من احتلال المزيد من الإرادة العربية والتحكم بالمزيد من القدرات والحقوق العربية، يستوي في ذلك الماء والنفط،
وأما أن ينحاز بعض العرب إلى جانب الإسرائيلي ويفتحوا له أبواب الأقطار العربية على مصراعيها، فأقل ما يقال في مثل هذا الموقف أنه “الغباء” مجسماً قبل أن يكون “الغدر” صريحاً، وأنه “رخص” مهين قبل أن يكون “تفريطاً” ذليلاً بحق عربي سليب.
ولسنا هنا في مجال مناشدة مشاعر الأخوة واستثارة نخوة الأشقاء،
كذلك فلسنا في معرض التهديد بالخروج على العروبة ومنها،
فهذه الدماء اللبنانية (والفلسطينية) التي تروي هذه الأرض المقدسة تشهد بأن بين العرب من بلغ في العروبة حد الشهادة، من أجلها، أي من أجل كل عربي في ما بين المحيط والخليج،
فأين “الذكاء” في أن يقوم بعض العرب باغتيال الشهيد العربي الذي سقط في المواجهة مع العدو الإسرائيلي من أجل حماية الحاضر العربي والمستقبل العربي… مستقبل كل عربي في كل أرض عربية، من المغرب إلى عُمان؟!
ليست هذه مناقشة في العواطف، إنها مناقشة في المصلحة – لعل ا لذين غلبت فيهم التجارة على العقيدة ينتبهون إلى مصالحهم فيبيعون دماء “إخوانهم” بسعر أعلى ويجنون من ذلك ربحاً أوفر!!
لن تكبر عُمان إذا خرجت من جلدها وهويتها وتاريخها، بل هي ستتحول – كما غيرها – إلى مجرد كيان هش تحت الحماية الإسرائيلية، تتحكم بمصيره (سياسياً) كما بموارده ورزق أهله (اقتصادياً).
فإسرائيل ليست جمعية خيرية بالتأكيد،
كذلك فلم تكن يوماً مصدر الأمن والأمان والاستقرار والازدهار لجيرانها أو “لأصدقائتها”،
ثم أنها الأشطر في التجارة فكيف إذا اجتمعت إلى الشطارة القوة وغباء الطرف الثاني (العربي) في صفقة الإذعان المعروضة أو المفروضة، لا فرق.
قبل أسابيع قليلة أثار وزير عُماني خطير جدلاً في مصر حين جلس في ندوة مع بعض المثقفين يسخر من العرب، أمة وتاريخاً وحضارة ولغة، محملاً اللغة العربية بالذات المسؤولية عن خروج العرب من العصر، منكراً على “المخلوق” العربي جدارته في أن يحقق ذاته سياسياً وفكرياً واقتصادياً وكأنه كتب عليه أن يعيش متخلفاً وأن يموت متخلفاً.
ولأننا نعرف في لبنان خاصة، كما في مصر، نماذج أفصح وأعمق “ثقافة” وأعظم إيماناً من هذا الوزير الخطير، فلم يتوقف معظمنا أمام كلام هذا الذي إذا خرج من عروبته اندثر، فهي – وهي فقط – مصدر وجوده وليس فقط “قيمته”.
لكننا كنا نفترض أنه لمووث كمن نعرف في لبنان، أو قاصر، أو مريض بإيدز الانعزالية،
أما أن تصبح اللوثة سياسة، والسياسة تجارة، ودماء العرب هي موضوع التجارة، فهذا أمر لا يجون أن يكون.
ولقد لا نملك، نحن الشهداء أو المرشحين للشهادة، بقذائف العدو الإسرائيلي أن نوقف مسيرة الانحراف هذه،
لكن من حقنا أن نحمي شرف الشهادة، فلا نتركهم يستغلون دماءنا ليمهروا بها اتفاقات الإذعان، أو يعيرون سيوفهم للعدو – إن كانت تبقت لهم سيوف – لكي يقتلنا بها.
ويا صيدا، ويا الجنوب، ويا لبنان كله، ويا فلسطين: بالدم تكتبون التاريخ العربي الجديد، تاريخ ما بعد “السلام” الإسرئايلي الذي لن يكون بعده “سلاطين”،
أما الدم فيبقى في الأرض يحميها لأصحابها ويبقيهم فيها،
وما أكثر ما جرف تاريخ هذه الأمة من سلاطين وأشباه سلاطين.