طلال سلمان

على الطريق السلاح الفاسد الجديد

القاهرة تقول: كل ما أريده وما أقبل به، الآن، هو اتفاق عسكري يضمن لي انسحاباً إسرائيلياً جديداً من أرضي المحتلة،
ونتيجة لذلك فهي تستغرب وتستنكر ردود الفعل السياسية على قرارها بالوصول – منفردة – إلى مثل هذا الاتفاق العسكري. وقد وصل الأمر بها إلى حد اتهام أي معارض بالخيانة العظمى!
اتفاق عسكري “لاستعادة أو لتحرير مزيد من الأرض”، لكن من يرى لهذا الاتفاق جانباً سياسياً خطراً وينبه إليه يدان “سياسياً” ويجرم “وطنياً”.
أما تل أبيب فتقول إنها لا تقبل إلا باتفاق سياسي، وإن الجانب العسكري من هذا الاتفاق أمر ثانوي للغاية وغير ذي أهمية بالنسبة لها. فليست الممرات الاستراتيجية “عقدة” ، ولا آبار النفط في أبو رديس “عقبة” في طريق الاتفاق “السياسي” بطبيعته: الانسحاب مقابل ماذا؟ إنه لا يجيء نتيجة ضغط عسكري مباشر، ولا عبر التهديد به، بل يجيء عبر ضغط سياسي يفترض أن تمارسه الدول العربية النفطية (والسعودية بالتحديد) على الولايات المتحدة، لتضغط بدورها على إسرائيل حتى تقبل باتخاذ القرار الصعب: الانسحاب العسكري.
لكن الضغط ليس مطلقاً هنا. إنه ضغط يستهدف إيصال الأطراف المعنية إلى اتفاق محدد، وذلك عن طريق تقديم تنازلات متبادلة. وبالتأكيد فإن كيسنجر لا يجيء الآن “ليأمر” جيش الدفاع الإسرائيلي بالانسحاب فوراً، ومن دون مناقشة. سيقول، على الأغلب، للإسرائيليين: خذوا أمنا دائماً أو شبه دائم، وهاتوا بعض الأرض التي لن تنفعكم في شيء إذا ظلت المشكلة السياسية ملتهبة.
أي إن الانسحاب، في التصور العملي، ثمن عسكري تدفعه إسرائيل لتنازل سياسي يدفعه العرب،
أما الولايات المتحدة فتستكتفي بالمردود “الاقتصادي” لهذا التنازل المتبادل: السيطرة الكاملة على مصادر الثروة الأساسية في المنطقة وهو النفط.
وغني عن البيان أن من يسيطر على النفط، في هذا الزمن الرديء، يسيطر على الدول والحكام والمؤسسات والأجهزة والأشخاص، ناهيك بالعقارات والحصون والشركات الأجنبية وما لذ وطاب في هذه الدنيا!
المعادلة واضحة، بكل أبعادها، إذن،
يسلس العرب قيادهم السياسي لأكثر حكوماتهم وشيوخهم تخلفاً وتعفناً ورجعية وخضوعاً للولايات المتحدة الأميركية،
وتبقى إسرائيل القوة العسكرية الكبرى في المنطقة، كاحتياط استراتيجي للقوة الأخرى “القاهرة”، وهي الولايات المتحدة ذاتها..
ويتخلص الـ 213 مليون أميركي من قلقهم على مصادر الطاقة، وعلى مصير النفط العربي تحديداً، بعدما يضمن لهم وزير خارجيتهم القادم إلينا ببركتهم جميعاً ودعواتهم الصالحة له بالتوفيق، السيطرة الكاملة والنهائية على النفط العربي وأهله. والضمان مزدوج: سياسي، بإخضاع إرادة أصحاب القرار السياسي لمصالح واشنطن، وعسكري بإبقاء إسرائيل قوة كبرى تستخدم غب الطلب أو حين تدعو الحاجة لتأديب المتمردين… فإن عجزت وحدها ساندها النظام الإيراني بالالتفاف على “العصاة العرب” وتصفيتهم!
وهكذا فإن نجاح كيسنجر في مهمته لا يعني فقط إلغاء النتائج الطيبة لحرب رمضان المجيدة، والتي كانت بمجموعها تشكمل نصف انتصار عسكري قابل التحول إلى انتصار سياسي كامل لو أنه وجد القيادة المؤهلة لتنبيه واستثماره وتوظيفه لمصلحة هذه الأمة وشعب مصر منها في الطليعة،
إنه يعني أيضاً هزيمة كاملة فللعرب، أكبر حتى من هزيمة 1967، لأنها تشمل الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية كلها، بينما كانت الإرادة السياسية بعد 5 حزيران أقوى من الهزيمة العسكرية فأمكن أن نصمد وأن نتقدم نحو العبور العظيم.
فنصف الانتصار مثل نصف الحقيقة: يعني النقيض تماماً، في غياب النصف الآخر.
وأول شروط الحفاظ على هذا الانتصار، حتى بحجمه الواقعي، ألا نفصل بين السياسة والعسكرية والاقتصاد.. خصوصاً وإن أعداءنا لا يفصلون بينها، مهما اشتد عليهم الضغط.. هذا إذا صدقنا حكاية الضغط المعقود اللواء لأعجز العرب سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
فالاقتصاد ليس ضخامة رأس المال، بل هو علم إدارة رأس المال وتوظيفه. وهذا بالضبط ما يفعله كيسنجر بأموالنا فيستقوي علينا، من ثم، سياسياً وعسكرياً و… اقتصادياً، ونسقط ضحايا سلاحنا ذاته.
… سلاحنا الفاسد الجديد!

Exit mobile version