طلال سلمان

على الطريق السقوط في الضاحية…

في الضاحية وعبرها كانت البدايات، وفي الضاحية وعبرها تجيء النهايات،
ربما لأن الضاحية، في الجغرافيا كما في السياسة، خط تماس فعلي بين الطوائف والمذاهب، بين سائر المناطق والجهات، بين العناصر المحلية وغير المحلية، بين الطبقات والمراتب الاجتماعية، وبالتالي بين الانتماءات الفكرية والمصالح والتنظيمات والاتجاهات والقوى السياسية المختلفة.
وعلى امتداد سني الحرب كانت الضاحية خط تماس مع “الآخر” خارجها، وفي الوقت نفسه أرض صراع مفتوح بين القوى المحشورة والمحاصرة والمحصورة أصلاً فيها، وقد أضيفت إليها كل كل الجموع المتنافرة التي جاءتها مهجرة من ضواحي بيروت الشرقية، أو التي اقتلعها الاجتياح الإسرائيلي المتكرر من أطراف الجنوب فلم تجد ملجأ لها إلا في أتون الحرب الأهلية… الضاحية.
في البداية كان أمر القيادة محسوماً، لأن طبيعة المعركة المفتوحة عبر الضاحية محددة،
ثم توالت “الانقلابات” والاشتباكات بين القوى الأصلية وبين القوى التي استولدتها الحروب، أو إنها دفعتها إلى الصدارة بعدما كانت في المؤخرة نسياً منسياً.
كانت “الانقلابات” تعكس تراجع الشعار السياسي للحرب، وتحولها أكثر فأكثر إلى اشتباك بين الطوائف، بل إلى مسلسل من الحروب المموهة العناوين وإن ظل موضوعها الفعلي موقع كل طائفة في النظام ودورها وحصتها من كعكة الحكم.
وبهذا المعنى كانت الطائفة الشيعية الأكثر حضوراً والأعلى صوتاً لأنها كانت ترى إنها مغبونة أكثر مما يجب، ومهمشة الدور أكثر مما يجوز، ومطعونة في كفاءتها أو جدارتها أو هويتها أو ولائها بأكثر مما يمكنها أن تتحمله.
كانت تصور فلسطينية إذا كانت الحرب على الفلسطينيين، وسورية إذا كان صدام الحكم مع سوريا، وشيوعية “هدامة” إذا كان الحديث عن ضرورة حماية النظام الحر، و”فارسية” إذا صار الموضوع هوية لبنان القومية، و”عربية” ناقصة الولاء للبنان إذا تركز البحث على “الصيغة” والاصلاح السياسي الضروري للحفاظ على الكيان ونظامه الفريد.
وبهذا فلقد كانت الطائفة الشيعية طرفاً في اشتباك، خصوصاً وقد تولى التعبير عنها وقيادتها “حركة” ليست مؤدلجة ولا هي عقائدية، وليست تنظيماً بالمعنى المعروف للكلمة.
فحركة “أمل” تستعصي على التصنيف: هي حركة المحرومين، أصلاً، لكنها تستقطب أغيناء “الطائفة” جميعاً بل وتعطيهم دوراً لم يكن لهم في أي يوم، وجمهورها العريض يحتشد فيه جيش الريفيين الذين لم يعرفوا الايدولوجيات والعقائد أو عرفوها ثم أبعدتهم عنها ممارسات دعاتها وقياداتها، لكن هؤلاء الريفيين دخلوا “الحركة” بثيابهم، فلما تبينوا صعوبة مهمة التغيير توزعوا بحسب انتماءاتهم الجغرافية أو بحسب ولاءاتهم السابقة على مجيء “التغييريين” الجدد إلى موقع القرار في الطائفة ومن ثم في الحكم،
وحركة “أمل” من النظام وليست فيه تماماً، وتخاف ألا تكون في صيغته العتيدة، تعارض وتعترض لكنها لا تقر بالثورة ولا تقول بها، ترفع شعار إلغاء الطائفية السياسية وهي تتوغل أكثر فأكثر داخل البنية الطائفية مؤكدة – في كل مناسبة – قبولها بصيغ التسوية التي لن تكون إلا طائفية في شكلها وفي مضمونها والتي يحدد سقفها التسليم بالكيان وبجوهر النظام وبموقع أصحاب الامتيازات فيه باعتباره ما أنشئ إلا من أجلهم، بحسب المنطق الكتائبي المعروف.
وحركة “امل”، ممثلة بقيادتها، تعي حقيقة أزمتها الفكرية والتنظيمية، ومن ثم السياسية،
لذلك فإن تحديدها لنفسها ولخطها يمتد من المحلي جداً (الجنوب وحده) إلى الوطني اللبناني، إلى العربي عامة (مع تخصيص للسوري من العرب بموقع ممتاز) إلى الإسلامي (مع لفتة خاصة إلى غيران الخميني وثورتها الإسلامية) إلى الإنساني المفتوح على جميع الأجناس والعناصر والألوان.
أما أزمتها التنظيمية فهي أوضح من أن تحتاج إلى شرح وتفاصيل: يكفي إنها بعد كل اشتباك تجد نفسها مضطرة على عزل كل أو معظم “القياديين” الذين تولوا إدارة المعارك التي تنتهي في الغالب الأعم بخسائر عسكرية أثقل منها وأفدح الخسائر السياسية الناجمة عنها.
فحركة “أمل” التي تمثل، بلا شك، جمهوراً عريضاً داخل الشيعة عموماً، وداخل الجنوب على وجه الخصوص، أكبر من أن تحصر في تنظيم عسكري، ثم إنها – بطبيعتها – ضد العمل العسكري ومزاج جمهورها أقرب إلى الاعتدال وإلى الحلول الوسط (داخلياً)، ولذا فلقد كانت تعتبر نفسها مستهدفة بالاشتباك وكانت تستعرب أن تتهم بأنها تسعى إليه.
صحيح إن فيها العديد من التيارات والأهواء والمصالح، لكن التوازنات التي تحكم نهجها العام تتدخل دائماً لوقف الاشتباك مع “الآخرين” حرصاً على موقع الطائفة ودورها، ومن ثم حرصاً على استمرار هذه الحركة تحديداً في التعبير عنها في هذه اللحظة السياسية.
وحتى من قبل “حرب الضاحية” كانت حركة “أمل” قد وصلت، وبالتجربة المرة، إلى حقيقة بسيطة مفادها إن دور السلاح قد انتهى، وإن الميليشيا، باتت عبئاً ثقيلاً على الحركة ومن ثم على الطائفةن وإن لا بد من الخلاص منها بأقل الأضرار الممكنة.
بهذا المعنى فإن ما يوصف بأنه سقوط عسكري لحركة “امل” في الضاحية، ربما كان في نظرها تخففاً من عبء كان يضغط على حركتها السياسية ويحد منها، وربما كان أيضاً يزكي جدارتها بالدور السياسي الموعود.
فالاصطدام ، بحد ذاته، أهم من نتائجه بالنسبة لحركة “أمل”، بينما النتائج هي المهمة بالنسبة لـ “حزب الله”.
لقد أعلنت حركة “أمل” الطلاب مع الاتجاه الأصولي، مع التطرف، مع إيران الخميني ومن ثم فقد برأت نفسها من تهمة “الفارسية”، كما أكدت عبر مناداتها بالدخول السوري وإلحاحها عليه إصرارها على الحل العربي (السوري) في لبنان، وفي الوقت نفسه فقد وجدت الفرصة مناسبة للتشديد على “لبنانية” الحركة وعلى “مدنيتها” وإنهاء عصرها العسكري… أي المحارب.
لقد خرجت عبر حرب الضاحية من الحرب، أو لعلها تفترض ذلك،
ولعلها تفترض أيضاً إنها عبر الاشتباك مع “الخارج” قد استقرت أخيراً في موقعها في “الداخل”.
وفي أي حال، وبمعزل عما تراه “أمل” في نفسها أو في غيرها، فإن حرب الضاحية قد تكون السقوط الحاسم للميليشيات وللسلاح والمسلحين في هذا الشطر من لبنان… في انتظار أن يحسم الشطر الآخر أمره مع المسلحين الذين ما زالوا يتحكمون بحياة الناس فيه ويعطلون وحدة القرار السياسي في البلاد.
قد تكون حرب الضاحية التي سقطت فيها “أمل” العسكرية نقطة بداية جديدة لحركة “أمل” كتنظيم سياسي له دوره مستقبلاً، وفي الوقت ذاته إعلان ميلاد “حزب الله” كتنظيم سياسي “لبناني” جديد يعكس تياراً فكرياً – سياسياً تحمل رايته الثورة الإسلامية في إيران ولكنه لا يتماهى معها ولا يرى نفسه – بالضرورة – فيها ومنها وإن كان معها.
لقد سقطت “أمل” في الضاحية عسكرياً، لكن سقوطها كان ضرورة لكي تولد من جديد وتكون مؤهلة لأن تلعب دورها دلاخل النظام الذي لم تخرج عليه منذ إنشائها.
كذلك فإن “حزب الله” يحاول أن يتبرأ من تهمة “الانتصار”، لأنه لا يريدها انتصاراً على الطائفة، ولا بالتأكيد على سوريا، ولا أساساً على أهل الضاحية وامتداداتهم في البقاع وجبل عامل.
وهل من دليل على سقوط الطرفين المقتتلين في الضاحية وعليها أوضح وأبلغ من هجرة أهل الضاحية وسكانها لها؟!
ففي أكثر التقديرات تفاؤلاً لا يتجاوز عدد السكان الصامدين (اضطراراً) في الضاحية اليوم أكثر من خمسين ألفاً، وقد كانوا قبل أسابيع قليلة أقل قليلاً من نصف مليون.
لقد سقطت الميليشيات نهائياً،
وسقطت بشكل خاص ميليشيا الطوائف والمذاهب،
ولعل مما يعزي الطائفة الشيعية أن تكون الأولى في الخروج من هذه الحماة التي أدخلت إليها مرغمة.
… وربما أدرك أمين الجميل هذه الحقيقة، قبل غيره، فعاد إلى الجيش يغازله ويتودد إليه، بزياراته الدورية لثكناته في الشرقية ولمرابضه على خطوط التماس مع الطوائف الأخرى.
ربما ليعيد التأكيد إن الجيش هو، مرة أخرى، حامي حمى النظام الذي تحتل فيه طائفته الموقع الممتاز…
لكأن أمين الجميل يريد أن يقول إن المستقبل للجيش، لا للميليشيا، أي ليس لـ “القوات اللبنانية”، وإن الجيش له وليس للطامح الطامع في وراثته “العماد” الذي لا يريد أن يكون رئيساً.
والعقبى للطوائف الأخرى…

Exit mobile version