طلال سلمان

على الطريق السقوط في الضاحية – 2 في انتظار النوارة!َ

في الضاحية وعبرها كانت البدايات، وفي الضاحية وعبرها كانت النهايات.
… ولقد نالت الضاحية – النوارة جزاء سنمار من جميع الذين انطلقوا منها أو ارتدوا إليها ثم ارتدوا عليها وعلى جمهورهم الأصلي فيها.
حتى ليمكن التاريخ للموجات والزعامات والتيارات والقيادات صعوداً وهبوطاً عبر الضاحية، وبالتحديد عبر استقراء أحيائها المهشمة وعبر بيوتها التي تحمل بصماتهم جميعاً على جدرانها جميعاً.
فالبيت الواحد في الضاحية جاءه الرصاص من “الشرق” أي من الكتائب و”الجيش الفئوي”، ثم من وريثهما “الشرعي” – “القوات اللبنانية” كما جاءه الرصاص من عن “اليمين” ومن عن “اليسار” ومن فوق (من اليرزة وما أحاط بها) ومن قبل ومن دبر (حتى لا ننسى المخيمات ومحيطها)…
وفي الضاحية كانت بداية تورط المقاومة الفلسطينية وحلفائها من الأحزاب “العلمانية” اللبنانية في الخطيئة المميتة، خطيئة التورط في مجابهة تيار شعبي مشبوب العاطفة مستثار الغرائز بقوة السلاح،
وفي الضاحية ونتيجة لهذه الخطيئة المميتة كانت بداية خروج المقاومة ومن معها من ضمير الناس ومن قلوبهم، حتى لقد تعذر على القياديين والكادرات والعناصر الحزبية المعروفة أن يتسمروا في الضاحية باعتبارهم بعض سكانها أو من أهاليها،
في الضاحية أيضاً كانت السقطة الأولى والأخطر لعهد أمين الجميل،
فبعد شهور فقط من تسمنه سدة الرئاسة بوصفه “مرشح الإجماع الوطني” خاض أمين الجميل امتحانه الأول، وكان سقوطه ذريعاً، وقد جر منعه “الدولة” إلى الانتحار… وفي الضاحية بالذات!
فجأة تحولت الضاحية – النوارة، خزان العمل الوطني والقومي، خزان المقاومة الوطنية للاحتلال الإسرائيلي، خزان النضال المطلبي باعتبارها موئل الفقراء والكادحين وصغار الكسبة، تحولت إلى صحراء: لا دولة فيها ولا أحزاب ولا نقابات ولا أي شكل من أشكال العمل الشعبي.
وصار المسجد – الجامع بؤرة النشاط الوحيد في الضاحية القليلة مساجدها حتى اليوم، بكل ما يعنيه هذا التحول في بيئة يتجمع فيها الفقر مع الاضطهاد والغبن والتخلف المفروض واستشعار القهر مع الخوف من الدورة التي ما كانت أبداً دولتهم وما كانت أبداً إلا مصدر ظلمهم وحرمانهم الطويل.
لم يكن ثمة مرجع للشكوى وطلب العون إلا السماء، ولم يكن ثمة ما يمكن أن يشفي الغليل ويبدل الحال إلا انتظار الخوارق والمعجزات التي يعجز عن اجتراحها الإنسان،
وهكذا تحولت الضاحية من مصدر قوة للنضال الوطني والقومي إلى بؤرة يهيمن عليها مناخ لا يمكن تلخيصه بالتدين وإن كانت مظاهرة توحي بذلك (الشعارات، الصور، تزايد عدد رجال الدين وتعاظم دورهم الخ)…
في هذه الصحراء، وتحت مظلة مظاهر التدين، انتعشت الانتماءات السابقة على الدولة والأحزاب والأنماط العصرية المألوفة للعمل السياسي والاجتماعي، فاستذكر سكان الضاحية أصولهم الريفية وانتماءاتهم العشائرية والقبلية والعائلية (وقبلها الجهوية)، واستنفروا في أهاليها الأصليين شعوراً بالاضطهاد لأنهم أضحوا الأقلية الوحيدة في “ضيعتهم” التي فقدت ملامحها ومعالمها الأليفة.
اختفت بساتين الليمون، وخنق الأسمنت المسلح عطر الورد، وازدحمت الشوارع بالوافدين الحائرين – بعد – بين ريفيتهم وبين الأخذ بأسباب التمدن، وبين التقرب من السكان الأصليين بتقليد نمط حياتهم وبين النفور منهم بسبب “إقليميتهم” وانغلاقهم الناجم عن التخوف من هذا الحشد الزاحف والمتنامي كما الفطر حتى ليحجب نور الشمس!
في ظل هذا المناخ، أو الفراغ السياسي والايديولوجي، نشأت “أمل” وتورمت وتضخمت باعتبارها “حركة الطائفة” ورافعة رايتها وأداتها للوصول إلى حيث تستحق في قلب النظام… فالصدام مع الدولة كان من أجل الدخور إليها وليس بهدف الخروج عليها إلى خيار آخر غير موجود اليوم ولم يكن موجوداً في أي يوم.
بعد “أمل” ومعها كان لا بد أن يجيء “حزب الله”، وأن ينمو كرديف وحليف إلى حد ما أول الأمر، ثم كشريك ضعيف، ثم كشريك قوي، ثم كان لا بد أن تمتحن القوة – بالاقتتال – لتقرر لمن يكون القرار.
وفي الضاحية بالذات كان سقوط التنظيميين بكل ادعاءات تمثيل جماهير المحرومين والمستضعفين في الأرض، إذ أن هؤلاء بالذات – ولا أحد غيرهم – كانوا ضحية اقتتال التنظيمين اللذين أنبتهما الفراغ وفشل التجربة الحزبية نتيجة لما أصابها من تشوهات الحرب الأهلية المتعددة المراحل والأسماء والشعارات والقوى المحركة والممولة والمستفيدة منها.
وكما حصل في بيروت من قبل كان لا بد أن يحصل في الضاحية، أي أن ترفع صرخات الاستغاثة وأن يعلو صوت طلب النجدة، وأن يتوجه الناس إلى القوة الوحيدة المؤهلة والقادرة على الإنقاذ، أي القوات العربية السورية.
ومع التقدير الكامل للدور الإنقاذي لهذه القوات، فإنه من المأساوي أن يستنجد بها الناس للخلاص من “أحزابهم” ومن “تنظيماتهم”، وليس من أجل مواجهة العدو القومي وامتداداته في البلاد الممزقة والمشطرة الآن والمحولة – بقوة السلاح – إلى ما يشبه الأرخبيل.
على إنه من الضروري أن يشار هنا إلى أن تجربة الأحزاب “العلمانية” على بؤسها لم تلحق بالناس من الأذى قدر ما ألحقته الأحزاب الفئوية والتنظيمات ذات المنطلقات الدينية أو الطائفية أو المذهبية أو التي اقتحمت الناس بمظاهر التدين.
وإذا كانت الأحزاب “العلمانية” قد هزت يقين الناس بجدوى العمل الحزبي أو العمل السياسي عموماً، فإن الأحزاب ذات الطابع الديني أو الطائفي قد هزت معتقدات الناس الإيمانية، وهكذا فرض على الناس أن يعيشوا حالة اهتزاز وتذبذب بين الهرب من الأرض التي لا خير فيها إلى السماء التي تحتوي كل الخير، وبين السقوط من حالق استنقاذاً لبعض ما تبقى من متاع الدنيا الفانية إذ لا مجال لتعويضه في دار البقاء.
ومن الظلم أن يحمل الجيش السوري ما لا قبل له به،
فلا الجيش السوري بقادر على تعويض غياب الدولة ومؤسساتها في لبنان، ولا هو يطمح إلى مثل هذا الدور،
ولا يجوز أن يكون الجيش السوري هو المطالب بإحياء الحياة السياسية (والحزبية) في لبنان… خصوصاً وإنه إنما جاء على عجل. وتلبية لنداء استغاثة ملح، لينقذ الناس من عشائرها المسلحة المتخذة لنفسها أسماء تنظيمات وحركات لا هي سياسية ولا هي حزبية ولا هي معبرة عن ضمير شعبها أو مصالحهز
على إن هذا لا يعني، بأي حال، أن يشطب على الأحزاب وأن يتم الانصراف عنها وشطب دورها في الحياة العامة، في هذا الكيان المركب على قاعدة هشة من التوازن بين الأديان والطوائف والمذاهب المتصارعة في ما بينها ومع “الآخرين”.
المطلوب نقيض ذلك تماماً: المطلوب أن تكون الأحزاب أحزاباً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، أي مؤسسات سياسية لها رؤيتها ولها برنامجها المعلن ولها هيئاتها القيادية المسؤولة ولها مؤتمراتها الجدية، ولها مشروعية الحق في النضال من أجل حماية النظام كما من أجل تغييره… ودائماً بالوسائل السلمية ومنطوق القوانين الطبيعية للصراع السياسي.
وأول شرط لذلك أن يلقي الجميع السلاح، وأن تستنقبذ الأحزاب نفسها من ميليشياتها، وأن تعترف بالمواطن، وأن تعترف “بالآخر”، أي بالمختلف عنها ومعها والقائل بغير ما تؤمن به.
والشرط الثاني أن يتوافق الجميع على إعادة بناء الدولة، فالدولة في لبنان هي وحدها الطريق إلى السلام وإلى الوحدة وإلى التقدم الاجتماعي.
والدولة تنطلق من حيث سقطت، أي من الضاحية التي كانت تلخص لبنان، لبنان الشعب المحروم والمغبون وحلم الوطن المفتقد.
وليس إلا في ظل الدولة ومعها تعود الضاحية نوارة ولا تظل ضحية للجميع ممن صنعت مجدهم!

Exit mobile version