طلال سلمان

على الطريق السقوط الملكي

مرة أخرى تسقط المملكة العربية السعودية في امتحان الأهلية للقيادة، عربياً، ويجيء السقوط عبر محنة اليمن مدوياً ومثيراً.
ولقد يُحرم علي عبد الله صالح من جني ثمار “حربه” باسم الشرعية والوحدة، وأولاً وأخيراً بسبب فقره قياساً إلى المملكة – المصرف، ناهيك بأن توسيع رقعة النار فوق الأرض النفطية محظور، ولو بالقوة.
لكن الثابت، حتى هذه اللحظة، أن مملكة الذهب الأسود والصمت الأبيض قد مُنيت بهزيمة سياسية – دبلوماسية قاسية، بدأت على أرض اليمن ذاتها، ثم امتدت إلى مجلس التعاون الخليجي فإلى جامعة الدول العربية وانتهاء بمجلس الأمن الدولي وسيده – سيد الجميع: الولايات المتحدة الأميركية.
برغم كل الضغوط والإغراءات لم تستطع المملكة أن تنتزع قراراً بالإجمامع خلال اجتماع وزراء خارجية مجلس التعاون في مدينة أبها (وهي للمناسبة إحدى المدن الواقعة في الأراضي التي تعتبرها اليمن يمنية اغتصبتها السعودية في عهد الإمامة)..
كان اختيار “أبها” رمزياً، لكن النتيجة العملية ذهبت بالرمز وجاءت نكسة، خصوصاً وقد أصرت قطر “الأخ الأصغر” على تحدي هيبة “المملكة”، الشقيقة الكبرى، بالإصرار على إعلان تحفظها على القرار وعدم الاكتفاء بتسجيله في المحضر.
أما الجامعة العربية التي كانت أولى ضحايا “عاصفة الصحراء”، والتي دأبت السعودية على إضعافها وتجاهلها مقدمة مجلس التعاون كبديل، فقد عجزت عن لعب أي دور برغم أنها كانت “تتمنى” أن تقدم خدمة ثمينة للمملكة السخية.
وأما في مجلس الأمن فإن حسابات المملكة لم تكن دقيقة.. ربما لأنها لم تحسن قراءة الموقف الأميركي.
وبرغم أن الأمير سعود الفيصل قصد نيويورك خصيصاً ليضم جهوده إلى جهود الأمير بندر الذي جاء من واشنطن فأمضى يوماً كاملاً من “التطبيقات” مع مندوبي مجلس الأمن، فإن القرار الذي صدركان أضعف مما يرغبون، وأهم ما فيه أنه لم يعترف ولو ضمنا بالانفصال الذي أعلنته جماعة الحزب الاشتراكي في عدن، والذي كادت المملكة تقود حزب الاعتراف به خليجياً وعربياً، لولا “النصيحة” الأميركية القاسية على تهذيبها.
أما القرار الجديد المتوقع صدوره بين ساعة وأخرى عن مجلس الأمن فلن يكون “أقوى” من سابقه، بل هو على الأرجح سيأخذ بعين الاعتبار “الواقع على الأرض”، وهو واقع ليس في مصلحة الانفصاليين ورعاتهم الملكيين.
جل ما حصل في مجلس الأمن أن العرب قد أعطوا لفضائحهم الداخلية أبعاداً دولية، فظهروا أمام العالم بلا رأس وبلا عقل، بلا قيادة وبلا مرجعية، يفتقرون إلى الحد الأدنى من التضامن على الصح كما على الغلط، لا يستطيعون حل مشكلاتهم بل ويتسبب تهورهم في تحويلها إلى أزمات دولية خطيرة.
“كلهم” أميركيون، لكنهم يخطئون في فهم السياسة الأميركية، أو أنهم يريدون من البيت الأبيض أن يتولى عنهم حل مشكلاتهم، في حين أن من في البيت الأبيض يعيشون حالة عصبية دقيقة بسبب عجزهم هن حسم المشكلات الأميركية الداخلية، وهي اقتصادية وسياسية شديدة التعقيد، ووضع الدولار الأميركي ليس أكثر من عنوان فرعي لها.
لقد اعتادت المملكة أسلوب تلزيم المشكلات للغير: واحدة تحيلها إلى مصر، مثلاً، وثانية إلى المغرب، وثالثة إلى الجامعة، ورابعة إلى مجلس التعاون، والكل إلى “الصديق الكبير” في البيت الأبيض.
كما اعتادت أن تتحرك دائماً من خلف الستار، وأن تعتمد أسلوب الهمس الواعد أو الوعد المهموس،
لكن اليمن “مسألة سعودية داخلية”، كما قال سعود الفيصل، وهي “مسألة تتصل بأمن المملكة وسلامتها”، ولذا فلا مجال للتمويه أو للعب تحت الطاولة، و”إذا نجح علي عبد الله صالح فهو سيلتفت إلينا بالتأكيد، كما أن بعض دول الخليج قد يعيد حساباته ويلتفت إلى القطب الجديد الآتي عبر الدم والحديد والنار ليكون قوة إقليمية كبرى”…
وكان على السعودية أن تستميل موقف الحكم المصري أولاً، وهي لم تتعب كثيراً لإقناعه، فأفتى حسني مبارك بأن “الوحدة لا تكون بالقوة”، مزكياً قيام الانفصال بالقوة، ومتطوعاً ليقود الحرب المضادة مقابل “رشوة” سياسية محدودة تمثلت بأن سلمه جماعة الحزب الاشتراكي في الجنوب بعض “الأفغان المصريين” من الأصوليين المتطرفين، في حين تعهدت السعودية بتأمين الوفاء ببعض الوعود القديمة بالمساعدة الاقتصادية، وهي وعود أطلقت عشية “عاصفة الحصراء” ثم لم ينقذ منها إلا النزر اليسير، وعلى حسابكرامة مصر، دولة وشعباً وجيشاً بذل بعض دمائه على أرض الكويت “المحررة”.
وليس سراً أن تأجيل الاجتماع المقررلدول إعلان دمشق (دول مجلس التعاون الخليجي + مصر وسوريا)، والذي كان يفترض أن يعقد الاثنين الماضي في الكويت، إنما تم بعدما تأكد أن طرفين على الأقل سيقفان ضد انفصال جنوب اليمن هما سوريا وقطر بطبيعة الحال،
وكانت المملكة قد أشاعت أن الاجتماع العتيد سيكون مناسبة للوفاء بالالتزامات القديمة التي أهملت سواء بالنسبة لمصر كما بالنسبة لسوريا،
المهم أن السعودية قد أثبتت، مرة أخرى، فشلها كقيادة عربية، حتى والأمر يتصل بأمنها مباشرة، على حد ما ترى الوضع في اليمن.
“النصر” اليتيم الذي سجلته المملكة كان على الشيوعيين القدامى في عدن، وهم “حلفاؤها” الجدد ومنذ ما قبل قيام الوحدة اليمنية.
لقد فرضت المملكة على “الحلفاء الجدد” أن يشركوا في “سلطتهم” خصومهم التاريخيين، من “جماعتها” بدءاً بعبد الرحمن الجفري ومن معه في “رابطة أبناء الجنوب العربي” السعيودة الذكر، وانتهاء ببعض سلاطين “المحميات” البريطانية السابقة، من غير أن تنسى عبد الله الأصنج وعبد القوي مكاوي، إلى آخر رموز الماضي والتبعية المطلقة لمن يدفع الراتب مع المخصصات الشهرية لاستبقاء ولاء الحاشية.
وإذا كان شيوعيو الأمس في عدن قد هربوا من “الشريك القوي” فيد ولة الوحدة إلى “شريك” افترضوه ضعيفاً في دولتهم الصغيرة والتي تتضاءل مساحتها يومياً، فإن منطق الأحداث يفرض أن يكون هذا الشريك الذي استدعي للإنقاذ هو وريثهم الفعلي، إذا قيض للحركة الانفصالية أن تنجح في إدامة كيان سياسي ما على أرض جنوب اليمن.
لقد ضحى هؤلاء بالوحدة، بل هم هموا بنحرها من أجل السلطة، وها هم مهددون بأن يفقدوا السلطة في لحظة تسنمهم لها… بقوة الحراب السعودية.
ومرة أخرى، قد لا ينجح علي عبد الله صالح في كسب “الحرب”، ولقد يكسب الحرب عسكرياً ويفشل أو يُفشل في جني نتائجها السياسية،
لكن المؤكد أن السعودية قد خسرت هذه “الحرب” حتى لو نجحت في حصرها داخل اليمن، بحيث تدمر احتمال قيام دولة قوية فيه، أقله في المدى المنظور،
فالحرب المقبلة يمنية – سعودية، وليس فوق أرض القطرين الأخوين – العدوين فقط، بل على امتداد مساحة الجزيرة والخليج، وربما أوسع مدى.
ومن يزرع الريح يحصد العاصفة… ولو طال السفر!

Exit mobile version