طلال سلمان

على الطريق السقوط الديموقراطي الثاني!

ها هي كسروان تدخل التاريخ بإعلان “انضمامها”، مرة أخرى، إلى الكيان اللبناني الخالد..
فلقد أراد البعض أن يصور الانتخابات النيابية الفرعية في كسروان وكأنها “حدث تاريخي”: إن هي جرت فقد سقط الكانتون الماروني لحساب النظام العالمي الجديد و”تطبيقاته” في لبنان، وإن هي لم تجر سقطت “الجمهورية الثانية” ومعها اتفاق الطائف ودعاته ورعاته “الكبار” وكلهم ينضوي تحت لواء “السيد” في واشنطن.
.. وهي انتخابات عرف الناس من هم الخاسرون فيها من قبل أن تعلن النتائج الرسمية بأسماء الفائزين،
فمع أول ورقة صغيرة أنزلت في تلك الصندوقة السحرية الصغيرة توالى سقوط العديد من الأسماء الكبيرة والأساطير المهابة.
وكان السقوط عظيماً.
ويمكن لأي مواطن بسيط أن يعطي قائمة كاملة بالذين خسروا الرهان وخرجوا من المعركة وقد جرحتهم المسامير التي زرعوها في طريق هذا القدر من الديموقراطية، و”تشحرت” وجوههم بالدخان الأسود للإطارات التي أشعلوها ليمنعوا زحف الاعتدال وتقدمه على حساب تراث الجراجمة في الرفض المطلق (؟!).
إنه الخريف، وهو موسم سقوط ما استوفى حظه من خضرة الربيع ونضوج الصيف،
ومؤسف أن يكون “خريف البطريرك” قد جاء قاسياً وشديداً وثقيل الوطأة على النفس وأعنف من “خريف الجنرال”، قبل ثلاث سنوات، لأنه تم “ذاتياً” وبقوى بحت محلية وبغير إسناد من “الخارج” بحيث يمكن التذرع بتدخل “الغريب” أو التواطؤ معه.
إن الأزمة السياسية قائمة،
ومكابر من ينكر أو يتجاهل أو يتعامى عن موقف الاعتكاف أو الاستنكاف المسيحي عن المشاركة في بناء “جمهورية الطائف”.
لكن مسروان قالتها بصراحة: الأزمة لا تصل إلى حد المقاطعة والخروج على “دولة الوحدة”، برغم الاعتراض على الكثير من ممارسات الحكم والذي قد يصل إلى حد اطلعن في أهليته.
قالتها كسروان ، بالأمس، كما قالتها معظم مناطق لبنان من قبل: ليس البديل المرتجى بين أولئك الذين خرجوا على الدولة وهددوا بتطرفهم غير المنطقي الكيان ذاته، في وجوده ومصيره.
وبغض النظر عن نسبة المقترعين في انتخابات كسروان، فلقد ثبت بالملموس أن البديل ليس “العماد” وليس “العميد” وليس البطريرك الماروني، الذي دخل “الحرب” متأخراً، على وجه التحديد.
ومن نافلة القول إن مقاطعين آخرين من نوع أمين الجميل، وذلك الساذج دوري شمعون، وإرهاط الذين تعجلوا الالتحاق بشعار المقاطعة والذين يتآكلهم الآن الندم على تورطهم ، ليسوا في مرتبة البديل،
بل إن بين هؤلاء من خسر الدنيا من دون أن يربح الآخرة، فلم يستطع أن يندفع فيتقدم “الجنرال” وهو يهرب إلى الأمام، ونسف الجسور فلم يعد بقادر على الانكفاء واستعادته موقع الشريك في قلب الحكم كما الكتائب مثلاً،
أما “القوات اللبنانية” فقد انفسخت نتيجة لسياسة “رجل في البور ورجل في الفلاحة”، والمؤكد أن الأزمة ستنتقل إلى داخلها فتنهي التنظيم لتبقي “الزعيم” طالما استمرت مالكاً لأقوى جهاز تلفزيوني.
ويمكن للبطريرك الماروني أن يرتاح الآن، فقد اختطف من “الجنرال” مرتبة “الأول” في القراءة السياسية المغلوطة، وسبقه إلى الهوة السحيقة للتطرف، حتى لقد صار خارج الزمان والمكان.
على أن بين ما يعزي البطريرك إنه ليس سياسياً محترفاًن وإنه قد أخطأ لشدة ما تمسك بما اعتبره موقفاً مبدئياًن ولعله قد انتقم أخيراً من ذلك الذي أذله ذات يوم وأهان موقعه، فانتزع منه الآن زعامة الشارع ولو مهجوراً إلا من الخيبة والمرارة والانسحاب تحت وطأة الشعور بالغربة.
لقد انتهت العملية الانتخابية بنجاح، عملياً، وإن كان واضحاً كم لحقها من تشوهات وكم أصابها من سوء السمعة،
لكن الأمر الواقع أكثر صلابة من أن تلغيه مثل هذه الاتهامات، ولو صحيحة،
فها هو “البرلمان” يقوم موفراً مصدراً جديداً لشرعية حكم الطائف وجمهوريته المتهاكلة،
ولسوف ينجب هذا المجلس النيابي الحاشد، وهو الأوسع تمثيلية في تاريخ لبنان الانتخابي (128 عضواً!!)، حكومة جديدة لاستيفاء الشكل الدستوري للطور الجديد من أطوار هذه الجمهورية التي ستتوالى تحولاتها في انتظار الفراغ من رسم الخريطة الجديدة للمنطقة ككل، ومن ضمنها لبنان.
بالمقابل، فلسوف تستمر “الأزمة الوجودية” التي تعصف بالعديد من رموز الزمن القديم في صفوف الموارنة، والتي تجعل مشاركتهم في السلطة أشبه بربط نزاع مع المستقبل، في انتظار الصياغة النهائية لهذا النظام الفريد بعد انتهاء المرحلة الانتقالية التي بات موعدها رهناً بالمفاوضات التي ستمتد لأكثر من سنة أخرى في واشنطنز
على أن ما يمكن تسجيله هنا إن أطرافاً عديدة ساهمت في تشويه صورة الانتخابات اللبنانية، في حين إنها هي ذاتها قد اجتمعت على تلميع صورة الانتخابات في الكويت،
ومفهوم أن تلجأ بعض الأطراف السياسية في لبنان إلى التشهير بالحكم، عبر الانتخابات، فهذا من ضمن “اللعبة” التي تقوم على الصراع بين “حاكمين” و”معارضين” طامحين لأن يكونوا الورثة والبديل بزعم إنهم أبطال الأحلام بالتغيير.
أما الحملة في الخارج، وبالتحديد على الصعيد العربي، فكانت تبدو وكأن القصد منها التشهير بالديموقراطية ذاتها، وبغض النظر عن الفائز فيها والخاسر والمخالفات ونسبة المقترعين.
لقد اضطروا للاعتراف بانتخابات قررها الأميركيون في الكويت وأشرفوا عليها ومنعوا التعرض لها بالسوء.
أما في لبنان فالانتخابات ليست أميركية بالقدر الكافي، وبالتالي فهي ليست ديموقراطية.
بعيداً عن النتائج المباشرة يمكن القول، مرة أخرى، إن اللبنانيين قد عبروا عن تشوقهم لأن يعودوا “مدنيين” معلنين انتهاء زمن الحرب وميليشياتهم التي صادرتهم باسم تمثيلها للطوائف،
كذلك فقد أثبتوا أنهم أكثر وعياً من معظم “قياداتهم” سواء التي في الحكم أو في المعارضة،
وهم قد أسقطوا العديد من المحسوبين على الحكم، لكنهم أسقطوا أيضاً معظم الذين ما فتئوا يدعون تمثيلهم والحق بقيادتهم من موقع المعارضة… بل والمقاطعة.
وأخيراً فقد أثبت اللبنانيون إنهم يستعدون للانتخابات التالية، فكانت هذه الجولة بمثابة “إعادة تأهيل” واستعادة العادة في التعبير عن الرأي وعن الحق في المشاركة بالأساليب الديموقراطية،
خصوصاً وقد أثبت الرصاص إنه الطريق إلى الدكتاتورية وإلى الدمار وليس إلى التغيير، لاسيما المرتجى في اتجاه الغد الأفضل.

Exit mobile version